رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكتابة بالشبه فى أدب الشبان

فى جامعة موسكو كان يدرس معنا طالب كوبى ظريف يقهقه طوال الوقت اسمه كارلوس، وفى إحدى حصص اللغة الروسية تطرق الحديث إلى السيد المسيح، وأراد كارلوس أن يشير إلى صلب المسيح، لكنه لم يكن يعرف فِعل «صلب» بالروسية، فرفع ساعديه وأحاط بهما وجهه، وراح باليمنى يدق فى الهواء على كفه اليسرى ويفعل العكس. أدركنا أنه يقصد صلب المسيح، فضحكت المعلمة وضحكنا معها. هكذا عندما غابت الكلمة لجأ كارلوس إلى وصفها، وعدد غير قليل من الأدباء الشبان يقومون بذلك، أى يصفون الكلمات لأنهم لا يعرفونها، وعلى سبيل المثال فإنهم يكتبون إنه «العشق بشدة»، لأن الكاتب لا يعرف كلمة «هيام» التى تشير إلى نفس المعنى فى كلمة واحدة، وهكذا فإنهم عمليًا يصفون: «الهيام» ويفككون الكلمة إلى عدة كلمات، كما يفعلون حين يكتبون عن شخصية «مكروه للغاية» بدلًا من كلمة «بغيض»، فيقعون فى وصف الكلمات وتفكيكها بدلًا من الغوص فى اللغة، أو فى الصور النمطية المستهلكة، ويكتبون- على سبيل المثال- «تدفق النور إلى الحجرة»، وهى صورة لا تنقل حالة محددة ولا تعكس علاقة الكاتب بما حوله، بينما يجعل جيمس جويس فى قصته «الموتى» الصورة محددة، تكسب اللحظة تفردها حين يقول: «انساب ضوء من مصباح الطريق فى شكل سهم طويل من إحدى النوافذ إلى الباب». والكتابة بوصف الكلمات أو بالاستعانة بالصور النمطية التى تصلح لكل لحظة وكل مكان هى كتابة بالشبه، أى أن الكاتب يحوم حول المعنى والصورة ولا يجسدهما. وفى الحالتين يرجع الأمر إلى ضعف علاقة الكاتب باللغة التى جاهد نجيب محفوظ لتملك ناصيتها حتى إنه قال: «إن أكبر صراع خُضته فى حياتى كان مع اللغة العربية». ذلك أن المقصود بالتمكن من اللغة ليس التمكن من النحو وقواعد اللغة، رغم أهمية ذلك، بل التمكن من التعبير، الذى لا يتأتى إلا بالتشبع باللغة، وأوزانها، ومفرداتها، وصرفها. المقصود باللغة القدرة على التعبير، وتفادى الكتابة بالشبه، والصور النمطية من نوع «القمر ساطع فى السماء» التى لا تصور لحظة محددة، بل تصلح لكل حالة ومع كل شخصية وفى كل وقت. وبهذا الصدد قال أنطون تشيخوف: «الأفضل بدلًا من تلك الصورة النمطية أن ترينى مثلًا كيف يسطع القمر على شظية زجاج على الرصيف». وبهذا الصدد تقول إيزابيل اللندى: «يمكن لقرائى أن يدهشوا عندما يعرفون كم أنا انتقائية فى اللغة، وكيف أننى أقرأ الفقرة بصوت عالٍ، فإذا كانت هناك كلمات مكررة فإننى أحذفها وعندما أجد أن كلمة ما لا تتطابق والمعنى الذى كنت أرمى إليه فإننى أستعين بالمعاجم.. ذلك أنه من المهم جدًا بالنسبة لى أن أجد الكلمة المحددة التى تخلق الشعور أو تصف الحالة.. نعم.. أنا انتقائية جدًا فى هذا الجانب، لأن الكلمات هى المادة الوحيدة التى نمتلكها». وتكرر نفس المعنى الروائية الأمريكية كيت ريد قائلة: «يفقد القراء ثقتهم بالكاتب غير المتمكن من قواعد اللغة، فإن كان يخطئ فى استخدام قواعد اللغة فكيف يثقون بما يقوله؟. فإذا كنت غير متأكد من الاستخدام اللغوى لبعض الكلمات، دقق ذلك فى المراجع المختصة». وعلى طريق تملك ناصية اللغة ما زال البعض يذكر معارك خاضها الكثيرون منها معركة د. محمد مندور عام ١٩٤٢ مع الأب «أنستاس الكرملى» حول لفظ: عثر ب، وعثر على! ولا يدعو أحد إلى هذا الإنهاك بحثًا عن الأدق: «عثر ب» أم «عثر على»، وفى المقابل لا تجوز الكتابة بالشبه ووصف الكلمات بدلًا من العثور عليها.