رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد على و«النظرة المصالحية» للدين

استند محمد على فى وصوله إلى الحكم إلى نظرية «قدرية الملك»، وقد شاء، بعد أن استتب له أمر البلاد، أن يسير بها نحو نظم الحكم الغربى كجزء من مشروعه الكبير فى التحديث، فنظّم الدواوين وأنشأ الديوان الخديوى ومعه وزارتان الأولى للحربية، لخدمة أهدافه الخارجية فى التوسع ومد ظلال ملكه إلى ما وراء وادى النيل، والثانية للداخلية لإدارة شئون البلاد محليًا، وأوجد التعليم المدنى والمدارس التى تلقنه للأجيال الجديدة، إلى جوار المدارس الدينية الموروثة عن العصرين المملوكى والعثمانى، والتى استخدمت كأداة للسيطرة الناعمة على الأهالى، من خلال ما تخرجه من علماء دين يغدق عليهم نظام الحكم المال كى يوظفهم فى بناء الشعبية.

موقف محمد على من الدين كان موقفًا معتدلًا. يقول إلياس الأيوبى فى كتابه عن «محمد على»: «كان الوالى مسلمًا مخلصًا فى دينه، يقوم بأداء فرائضه بكل نشاط، لكنه لم يكن بالمغرق فى عبادته، ولا بما يدعوه الغربيون متعصبًا، بل كان واسع الصدر جدًا لجميع الأديان». وحقيقة الأمر أن الوالى لم تكن تحكمه إلا مصالحه، ينسى مسألة الدين، حيث حضرت المصلحة، ويستدعى تدينه وإسلامه حين تكون فى ذلك خدمة لمصالحه. بعبارة أخرى تمتع محمد على بـ«نظرة عملية إلى الدين» كأداة من أدوات إدارة الدولة.

يشهد على ذلك على سبيل المثال تغذيته للاتجاه المعارض لتحالف المماليك مع الإنجليز خلال حملتهم على مصر عام ١٨٠٧. كان الأمير محمد بك الألفى الضرس السياسى والعسكرى الشهير فى ذلك العصر قد استدعى الإنجليز- وكانت علاقته بهم قوية- لدخول مصر ومعاونته فى الإطاحة بمحمد على، لكنهم حضروا بعد وفاته، فبادر المماليك الألفية إلى محاولة إقناع غيرهم بضرورة التعاون مع الإنجليز ضد الوالى، لكن موقفهم هذا وُوجه من جانب أكبر طرف مؤيد لمحمد على فى ذلك الوقت وهو طرف المشايخ. يحكى الجبرتى أن المشايخ نصحوا المماليك بعدم الانخداع بالإنجليز وبكلامهم عن أنهم جاءوا لنصرتهم باستدعاء من «الألفى» وقالوا إن حالهم ليس كحال الفرنساوية، فإن الفرنساوية لا يتدينون بدين، ويقولون بالحرية والتسوية «المساواة»، وأما هؤلاء الإنجليز فإنهم نصارى على دينهم ولا تخفى عليهم الأديان، ولا يصح الانتصار بمن وصفوهم بـ«الكفار» على المسلمين. استمع المماليك الألفية إلى كلام المشايخ ودفاعهم عن محمد على كاملًا ثم علقوا قائلين: «كل ما قلتموه وأبديتموه نعلمه، ولو تحقق الأمن والصدق من مرسلكم- يقصدون محمد على- ما حصل منا خلاف ولحاربنا وقاتلنا بين يديه، ولكنه غدار لا يفى بعهد ولا بوعد ولا يبر فى يمين ولا يصدق فى قول».

كان المماليك يفهمون أن محمد على شخصية عملية لا يهمه أمر الدين، إلا حيث يجد فيه خدمة لمصالحه، وعند غزو الإنجليز لمصر كان فى موقف لا يحسد عليه، ولم يجد غضاضة لحظتها فى أن يستخدم الدين فى فض عرى الارتباط بين المماليك والإنجليز، واستغل فى ذلك القوة الناعمة التى استعان بها المماليك كثيرًا فى السيطرة على المجموع، وهى قوة المشايخ التى باتت تعمل لحسابه فأرسل بهم إلى «الألفية» ينهونهم عن تعريض ظهر الوالى للخطر، والاستعانة بالكفار على قتاله وقتال قواته من المسلمين.

ولم يكن محمد على يفرق فى جمع «الفرضة»- ما يفرضه من ضرائب- بين مسلم وقبطى من أهل مصر. فالمغارم كانت تفرض على الجميع وتسحب من جيوب الجميع بمنتهى المساواة، فكل من كان معه مال كان محل طمع الوالى بغض النظر عن ديانته، وثمة وقائع عديدة تشير إلى أنه كان يضع عينيه على ثروات كبار التجار القبط، كما يضعها على جيوب التجار المسلمين، والحديث عن أنه كان واسع الصدر جدًا لجميع الأديان، وبالتالى لم يفرق بين مسلم ومسيحى، لم يكن ناتجًا عن تسامح أو بُعد عن التعصب، بل كان مرده المصلحة الشخصية. فقد احتل بعض الأقباط فى عهد الوالى الكبير بعض المناصب المهمة داخل دولاب الدولة، لأنهم كانوا أصحاب خبرات عميقة، وخصوصًا فيما يتعلق بالإدارة المالية، وقد راكموا هذه الخبرة عبر عصور طويلة، تواصلت حتى الفترة التى سبقت حكم محمد على لمصر، إذ لعبوا أدوارًا شبيهة خلال الحملة الفرنسية على مصر.

لجأ محمد على إلى المعلم جرجس الجوهرى، ومن بعده إلى المعلم غالى لإدارة مالية البلاد، وتولى الأخير رئاسة دواوين الحكومة، وكان ذكيًا حصيفًا- كما يوصف فى كتاب «تاريخ الأمة القبطية»- يجيد اللغة التركية، وقد نظم توزيع وتقسيم الأراضى، بصورة تمكنه من جمع الضرائب المفروضة عليها بسهولة ودقة، وحدثت بينه وبين محمد على بعد مدة من وجوده داخل هذا المنصب مشاكل تتشابه مع ما حدث مع المعلم جرجس الجوهرى، تتعلق بعجزه عن جباية الأموال الطائلة التى كان يطلب الوالى جمعها من الأهالى، فعزله من منصبه، وأودعه فى السجن، ثم أخرجه منه لما وجد نفسه فى حاجة إليه لتنظيم الدواوين على نمط جديد، وبقى فى منصبه هذا إلى أن قتل عام ١٨٢٢. بعده استدعى محمد على ولده باسيليوس ليخلف أباه فى منصبه، وأسند إليه وظيفة رئيس المحاسبة فى الحكومة المصرية، وأنعم عليه برتبة بك وهو أول من مُنح هذه الرتبة من الأقباط.

نخلص مما سبق إلى أن محمد على امتلك رؤية عملية متنوعة الوجوه فيما يتعلق بتوظيف الدين، فقد كان يستدعيه ويستجلب رموزه فى الحالات التى تخدم مصالحه، مثلما فعل أيام حملة فريزر على مصر عام ١٨٠٧، ثم ينساه ويخون عهده بعد ذلك، كما فعل مع المماليك الذين تخلوا عن نصرة الإنجليز اقتناعًا بكلام المشايخ، ولقوا جزاءهم بعدها ببضع سنوات فى مذبحة القلعة الشهيرة، كما أن إفساحه المجال للأقباط للتعيين فى الوظائف العليا بالدولة، لم يكن مرده ما يتمتع به من تسامح، بل كان مدفوعًا فيه بالمصلحة أيضًا واستغلال ما يتمتعون به من قدرات على هذا المستوى.

الوالى بدا «قدريًا» يجعل من الدين بشارة للتحقق فى عالم السياسة خلال فترة سعيه للحكم.. ثم ظهر «عمليًا» كأشد ما يكون بعد تسلطنه على الكرسى، فبنى الدولة بمعايير الدولة، وحيّد موقع الدين فى قراراته، إلا حيثما وجدت مصلحة له.