رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طه حسين.. مستقبل مصر

فتحى غانم يكتب: طه حسين.. رحلة إلى المجد

فتحى غانم
فتحى غانم

- كان طه يتحدث عن أحلامه، ويغيظ أخواته البنات فيقول لهن إنه سيذهب إلى أوروبا ويقيم فيها أعوامًا، ثم يعود منها وقد اختار لنفسه زوجة فرنسية متعلمة مثقفة

- هذا الصبى الذى لا يرى النور قد عزم بينه وبين نفسه على أن يرى كل شىء.. ويصل إلى كل شىء.. إن كل ما رآه ويذكره عن طفولته المبكرة- قبل أن يذهب بصره- هو سور حول البيت مصنوع من القصب

 

فى إطار احتفال الدستور بـ«عام طه حسين» احتفالًا بالذكرى الخمسين لرحيل عميد الأدب العربى ننشر هذا المقال للأديب الكبير فتحى غانم.. وهو واحد من خمس مقالات عن طه حسين نشرها فى مجلة روزاليوسف عن طه حسين وجمعها بعد ذلك فى كتاب بعنوان «الفن فى حياتنا» صدر عن سلسلة الكتاب الذهبى فى روزاليوسف.. فى هذا المقال يروى فتحى غانم رحلة طه حسين إلى المجد فى إطار حالة المجتمع.. ويبحث عن الدوافع التى أذكت طموحه.. ودفعت أسرته إلى تعليمه.. ودفعته هو إلى النبوغ فى التعليم.. ثم ينتقل لقراءة هذه الدوافع من خلال طه حسين نفسه وما ذكره فى كتابه الأيام الذى روى فيه رحلته من القرية إلى السوربون.. هذا المقال البديع هو الأول من سلسلة مقالات نعتزم نشرها عن طه حسين بأقلام كبار الكتاب، سواء من جيله أو من الأجيال التى تلته وتتلمذت على أفكاره.. لعلنا نوفيه بعض حقه وبعض ما قدمه لهذا الوطن.

 

وائل لطفى               

لا أصفه بأقل من.. معجزة..

ذلك الجهد العنيف الأسطورى، الذى بذله طه حسين ليخرج من غمار الريف، وهو صبى جاهل، محروم من النور، فقير لا يملك شيئًا، ومع ذلك استطاع أن يقوم برحلته إلى المدينة من أجل العلم، وبحثًا عن حياة أفضل.

إننا فى القاهرة اليوم، وفى المدن الأخرى الكبيرة نرى آلافًا من الآباء يعيشون حياة الطبقة المتوسطة كموظفين وتجار وأصحاب مهن حرة.. وهم جميعًا قد خرجوا فى مطلع القرن العشرين من الريف، ودخلوا المدارس وتعلموا فى المدينة، وحصلوا على الشهادات الابتدائية والثانوية أو الجامعية- ثم تبأوا مراكزهم الحالية فى المجتمع المصرى، فمنهم رجال السياسة أو ضباط الجيش أو القضاة أو الأطباء أو المهندسون.. وكل من له شأن اليوم فى توجيه حياتنا سواء من ناحية الحكم أو الفن أو الاقتصاد أو الإدارة..

إن هؤلاء الآباء جيل فريد فى تاريخنا الحديث. فقد جاهدوا بأنفسهم كى يتحولوا من طبقة إلى طبقة من فلاحين يسكنون الريف، إلى أبناء طبقة متوسطة يسكنون المدينة.. ومن قوم يعيشون على التقاليد القديمة، إلى متعلمين يعيشون بمنطق العلم والتفكير والثقافة.. ومن حياة زراعية تعتمد على ما تنتجه الأرض إلى حياة تعتمد على الكسب المادى على المهنة أو الوظيفة.. 

إننا لو راجعنا تاريخ حياتهم لوجدناهم من أبناء عصر انتقال من الريف إلى المدينة، وأصحاب قصة كفاح رائعة، وهى فى نفس الوقت قصة واحدة متشابهة..

وأروع هذه القصص وأخطرها وأشدها إعجازًا.. هى قصة طه حسين..

كان طه، سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه، وخامس أحد عشر من أشقته..

وكان أبوه فقيرًا يعمل فى وظيفة بسيطة تابعة لشركة للسكر لا يكاد مرتبه يفى بضرورات الحياة، فإذا تمزق حذاء الصبى طه، كان عليه أن يمشى حافيًا لشهور طويلة حتى يستطيع أبوه أن يشترى له حذاءً جديدًا.. 

ثم كانت هذه المأساة فى حياة طه، فقد أُصيبت عيناه بالرمد فأهملوه أيامًا. ثم دعوا الحلاق فعالجه علاجًا ذهب بعينيه.

وأخيرًا، كانت بداية هذه القصة، فى أسوأ فترة مر بها الفلاح المصرى، فى أواخر القرن التاسع عشر، وقد أفلست مصر، بعد أن أرهقها الخديو إسماعيل بمصاريفه الجنونية وضرائبه المرتفعة، وتكاثر عليها الدائنون الأجانب، ثم جاء الإنجليز فاحتلوها بدعوى حماية مصالحهم وديونهم.

ولنا أن نتساءل فى عجب، كيف استطاع صبى أعمى فقير أن يشق طريقه فى مثل هذه الظروف، إلى التعليم والحياة الكريمة، وحتى غيره من آبائنا الذين لم يحرموا من النور، كيف استطاعوا أن يشقوا طريقهم إلى التعليم، وكيف أنشأوا هذه الطبقة الكبيرة، التى نسميها الطبقة المتوسطة اليوم.

ما الذى جعل هؤلاء الفلاحين على ما هم فيه من جهل وفقر يندفعون فجأة إلى التعليم، وأنا أعنى كلمة فجأة وأؤكدها، لأن هذه الرغبة فى التعليم التى انبثقت فى مصر كانت بلا مقدمات، وقبلها بفترة قصيرة جدًا، كانت الأم الفلاحة تفضل أن تفقأ عينى ابنها على أن تدفع به إلى المدرسة كى يتعلم، وكان الفلاح يعتز بحياة الزراعة والفلاحة ويحتقر الموظفين الذين يعتمدون على القراءة والكتابة فى كسب رزقهم شأن الصراف أو المُحضر أو كاتب المحكمة. وما كان الفلاح ليرضى بأن يزوج ابنته لأحد من هؤلاء الموظفين، فليس لأحد عزة وكرامة إذا لم تكن له أرض يلتصق بها وينتمى إليها. 

ولكن الفلاح أُصيب بنكبة لم ير لها مثيلًا من قبل، اشتدت عليه الأزمة، وأرهقه جباة الضرائب بما يطلبون من مال، ولم تعد الأرض نعمة وخيرًا بل هى نقمة وشر على صاحبها، وأسرع الفلاحون يتخلصون من الأرض حتى لا يدفعوا الضريبة، ولم يجدوا المشترى. فرفعوا القضايا على الحكومة ينكرون فيها ملكيتهم لأراضيهم التى هجروها، وبدأ الفلاحون يرون الموظفين ما زالوا يقبضون مرتباتهم أول كل شهر ولا يتأثرون بانخفاض الأسعار بل يستفيدون منها، وحياتهم فيها اطمئنان كبير ونفوذ يستمده الموظف من وظيفته فى السيطرة على الفلاح المنكوب.. 

وقرر الفلاحون فيما يشبه الإجماع فى أنحاء مصر كلها، أن الوظيفة خير من الزراعة، وأن المرتب أضمن للحياة الكريمة من حاصل الأرض وربحها، وانتشر المثل: «إن فاتك الميرى اتمرغ فى ترابه» وطالبت قرى مصر كلها بالتعليم وهو الطريق المؤدى إلى الوظيفة والثروة..

يصف لورد كرومر هذا الحال فى كتابه «مصر الحديثة» فيقول:

«زرت فى عام ١٨٨٩ كثيرًا من القرى النائية فى صعيد مصر، حيث لا يرى أثر المدنية الأوروبية إلا نادرًا، ولم يكن هناك مطلب يتقدم به الفلاحون إلىّ أكثر من إلحاحهم فى أن أحث الحكومة على إنشاء المدارس فى هذه القرى». 

وكتب يعقوب أرتين باشا عن هذه الفترة يقول فى دهشة: 

«إنهم يطالبون بالمدارس، وحيث توجد المدارس يطالبون بتطويرها دون أن يعرفوا حقيقة هذه المدارس»..

وملاحظة كرومر ودهشة أرتين باشا لهذه الرغبة الملحة عند الفلاحين يصورها طه حسين فى كتابه «الأيام»، وهو يتكلم عن والده فيقول:

«ذلك أن الشيخ- أباه- كان كثير الحاجات عند الله. كان له أبناء كثيرون وكان يحرص على تعليمهم وتهذيبهم، وكان فقيرًا لا يستطيع أن يؤدى نفقات ذلك التعليم، وكان يستدين من حين إلى حين ويثقل عليه أداء الدين. وكان يطمع فى أن يزداد راتبه من حين إلى حين، وكان يطمع فى أن يتقدم درجة وينتقل من عمل إلى عمل. وكان يلتمس هذا كله عند الله بالصلاة والدعاء والاستخارة.. ويدفع ابنه إلى السحر والتصوف».

إذن هو الفقر المدقع، واليأس من الأزمة، هو الذى حوّل أنظار الفلاحين إلى التعليم، فهم يعيشون فى جهل السحر والتعاويذ والاستخارات، ولا يعرفون ما هى المدارس، وما هو العلم، ولكنهم يشعرون بأن العلم هو الطريق الصحيح للخروج من المأزق.. فيطالبون بإنشاء المدارس وبتطويرها، ويستدينون من أجل تعليم أبنائهم فيها..

وبدأ طه حسين تعليمه فى الكتّاب، وحفظ القرآن، فلم يحس بشبع نفسى أو مادى.. «وما هى إلا أيام حتى سئم لقب الشيخ وكره أن يدعى به.. ولم يلبث شعوره أن استحال إلى ازدراء للقب الشيخ».. 

لم يكن القرآن ولا تعاليم الدين هى التى من أجلها يريد طه حسين أن يتعلم، بل هو يريد أشياء أخرى سواء تعلم أو لم يتعلم.. إنه يريد أن يخرج من فقره، وأن ينهض من هذه الهوة التى ليس لها قرار والتى يتردى فيها.

لقد حفظ القرآن، ومع ذلك فهو ما زال مهمل الهيئة، على رأسه طاقيته التى تنظف يومًا فى الأسبوع، وفى رجليه حذاء يجدد مرة فى السنة، ولا يدعه حتى يصبح لا يحتمل شيئًا، فإذا تركه فليمش حافيًا أسبوعًا أو أسابيع حتى يأذن الله بحذاء جدید..

وهناك فى القرية أمثلة يريد طه أن يحتذيها.. هناك نفيسة مثلًا..

إنها صبية مكفوفة البصر مثله، ولكن أهلها من الأغنياء كان أبوها حمّارًا ثم أصبح تاجرًا مثريًا ينفق على أهله من غير حساب، ولم تكن الفلوس تنقطع من يد نفيسة، فضلًا عن مهارتها فى حفظ القرآن. وفى إعطاء الرشاوى للصبى طه حسين الذى كان يشرف على تحفيظها كلام الله..

كانت نفيسة تخترع القصص والحكايات لطه حسين وتنشد له ألوان الغناء المفرح والتعديد المبكى، وكانت غريبة الأطوار فى عقلها شىء من الاضطراب، ولا شك أن الصبى طه سئم لقب الشيخ وازدرى حياته، فى تلك الساعات التى قضاها مع نفيسة، ولعله فى تلك اللحظات كان يفكر فى أبيها الحمّار الذى أثرى، وفكر فى قصص نفيسة وحكاياتها وفى رشاواها المادية من حلو وتمر أو المعنوية من أغانٍ وحکایات، ربما تمنى لو كان هو نفيسة فلا فرق بينهما- وكلاهما ضرير- سوى الثروة والمال..

ومثل آخر لما أعجب به طه حسين فى حياة أبناء الطبقة المتوسطة..

تلك الفتاة فى السادسة عشرة من عمرها زوجة مفتش الطرق الزراعية «المطربش» والمتكلم بالفرنسية والذى جاوز الأربعين من عمره..

جاء هذا المفتش إلى بلدة طه حسين، وكان مرحًا خفيف الظل فأحبه الجميع، وفوق هذا كان الرجل يحفظ القرآن ويجيد قراءته، وتعهد بأن يدرّس لطه قراءات القرآن، وتردد طه على بيت المفتش وعرف زوجته «وأخذ يحييها مستحييًا، ثم متبسطًا، ثم مطمئنًا واتصلت بين هذه الفتاة وهذا الصبى مودة ساذجة، كانت حلوة فى نفس الصبى لذيذة الموقع فى قلبه.. وكان المفتش يجهلها جهلًا تامًا. وأخذ الصبى يذهب إلى دار المفتش قبل الميعاد ليظفر بساعة أو بعض ساعة يتحدث فيها إلى هذه الفتاة، وأخذت الفتاة تنتظره، حتى إذا أقبل أخذته إلى غرفتها.. فجلست وأجلسته وتحدثا، وما هى إلا أيام حتى تحوّل الحديث إلى لعب.. إلى لعب كلعب الصبيان لا أكثر ولا أقل»..

ولا شك أيضًا فى أن زوجة المفتش وبيتها وزوجها بفرنسته قد غرسوا أحلامًا فى نفس طه عن حياة الطبقة المتوسطة وتحددت فى هذه الفترة معانى الحياة فى الطبقة المتوسطة عنده..

ومثل ثالث- وليس آخر الأمثلة- صور لطه حسين حياة العلم والمدينة..

أخوه فى الثامنة عشرة، جميل، ذكى، ظفر بشهادة البكالوريا، ودخل مدرسة الطب، وعاد إلى قريته فى الصيف أثناء وباء الكوليرا فشارك فى العناية بالمصابين، ثم أصابته العدوى فمات يوم الخميس ٢١ أغسطس سنة ١٩٠٢ وحزنت الأم وحزن الصبى حزنًا شديدًا عليه.

ومن آثار هذا الحزن الذى بقى فى نفس طه حسين، رغبة ملحة فى أن يكمل ما بدأه أخوه الذى مات فى مقتبل العمر، ولكن كيف يحقق هذه الرغبة، وقد فرضت عليه مأساته أن يُحرم من التعليم المدنى، وأقصى ما يستطيع أن يحققه هو أن يتجه إلى الأزهر؟..

وفى يوم من خريف عام ١٩٠٢ قال الأب لابنه طه: «ستذهب إلى القاهرة مع أخيك، وستصبح مجاورًا، وستجتهد فى طلب العلم، وأنا أرجو أن أعيش حتى أرى أخاك قاضيًا، وأراك من علماء الأزهر»..

وذهب طه حسين إلى الأزهر، واستمع لأول مرة لأحد شيوخه..

سمع العالم الأزهرى يقول بصوت متحشرج:

- ولو قال لها أنت طلاق أو أنت ظلام، وقع الطلاق، ولا عبرة بتغيير اللفظ.

ثم التفت العالم الجليل إلى تلاميذه وقال:

- فاهم يا أدع؟

ولما انصرف طه عن الدروس سأل أخاه:

- ما الأدع؟ 

وقهقه الأخ مجيبًا:

- الأدع.. هو الجدع.

ويقسم طه أنه احتقر العلم من ذلك اليوم..

ولم يجد الصبى طه حسين فى الأزهر بغيته، لقد حلم وهو فى القرية بحياة أفضل من الفقر الذى يعيش فيه، والتقى نفيسة الصبية المكفوفة بنت التاجر الثرى الذى كان حمّارًا، وتمنى لو كان مثلها على حظ من الحياة الكريمة، والتقى مفتش الطرق الذى يتكلم الفرنسية ويلبس الطربوش، ودخل بيت المفتش وأنشأ صداقة بينه وبين زوجته الصغيرة، وتمنى أن يعيش مثل حياة المفتش، ويتكلم بلهجته، وينعم ببيت مثل بيته، فلا يأكل على «طبلية» ولا يمشى حافيًا على الطين..

وكان طه يتحدث عن أحلامه، ويغيظ أخواته البنات فيقول لهن إنه سيذهب إلى أوروبا ويقيم فيها أعوامًا، ثم يعود منها وقد اختار لنفسه زوجة فرنسية متعلمة مثقفة، تحيا حياة راقية ممتازة.. ليست جاهلة مثلهن، ولا غافلة مثلهن، ولا غارقة فى الحياة الخشنة مثلهن..

وتسخر البنات من كلام طه، وتضحك الأم فى أسى من أحلامه التى تبدو خرافية بعيدة عن التصديق، إذ كيف السبيل لطه إلى أن يحقق أى طرف من أحلامه، وهو يلاقى أسوأ ما يلاقيه إنسان فى الأزهر..

أستاذه يصيح فيه:

- اقرأ يا أعمى سورة الكهف..

وقريب له- ابن خالته- طالب فى دار العلوم، يسخر منه قائلًا:

- أنت جاهل.. لا تعرف إلا النحو والفقه ولم تسمع قط درسًا فى تاريخ الفراعنة.. أسمعت اسم رمسيس.. وأخناتون؟..

ولا يعرف طه مَن هو رمسيس، ومَن هو أخناتون.. ويعتقد أن الله قد كتب عليه حياة ضائعة لا غناء فيها..

ولكن هذا الصبى الذى لا يرى النور قد عزم بينه وبين نفسه على أن يرى كل شىء.. ويصل إلى كل شىء.. إن كل ما رآه ويذكره عن طفولته المبكرة- قبل أن يذهب بصره- هو سور حول البيت مصنوع من القصب، وكان يعتقد أن هذا السور يمتد من شماله إلى حيث لا يعلم له نهاية، ويمتد عن يمنيه إلى آخر الدنيا..

ثم اكتشف يومًا عندما رأى أرنبًَا يقفز من السور، أن هناك وراء السور حقولًا خضراء يُزرع فيها الكرنب، وأن هناك قناة يجرى فيها الماء، ويقيم بعدها عالم من العفاريت والتماسيح والمسحورين، وتمنى لو هبط إلى القناة لعل سمكة تبتلعه، فيجد فى بطنها خاتم سليمان، فقد كانت حاجته إلى الخاتم شديدة.. يديره فى إصبعه فيظهر له خادمان من الجن يساعدانه على رؤية أعاجيب العالم..

ثم فقد الصبى بصره، وأصبح عاجزًا عن المضى فى مغامراته فى اكتشاف العالم من حوله ولم يحصل على المعجزة التى يريدها.. خاتم سليمان.. ولكنه لم يفقد أبدًا طموحه، بل زادته الظلمة التى أطبقت على عينيه رغبة ملحة فى المعرفة والاكتشاف. 

ومضى طه يكتشف بسمعه ما كان يكتشفه بعينيه، اكتشف صوت شاعر يغنى للناس على أنغام الربابة.. واكتشف شيخ الكتّاب الذى علمه القرآن، ثم اكتشف نفيسة والمفتش وزوجته وسمع عن الأزهر، فمضى إليه، فما تحسن حاله، بل سمع فيه العالم الذى يقول له يا أعمى، وابن خالته الذى يقول له يا جاهل.. وسمع فى نفس الوقت عن الجامعة المصرية. حيث يذهب إليها طلبة يلبسون الطربوش يتحدثون بلهجة مهذبة رقيقة، ويتعلمون لغات أجنبية- منها الفرنسية التى يتكلمها المفتش الذى عرفه فى القرية- وسمع عن بعثات للطلبة ترسلها الجامعة إلى فرنسا، حيث يستطيع طه أن يحقق حلمه الذى تسخر منه أخواته وتشفق منه أمه.. وهو الزواج من فرنسية مثقفة تحيا حياة راقية ممتازة..

ولم يعد طه يحتمل حياة الأزهر، إنه لا يريد العلم، أو هذا العلم المفروض عليه، لأنه لا يمنحه حياة أفضل وأكرم.. إنه يريد العلم الذى ينجيه من الفقر، ويرفع من مستواه الاجتماعى ويدفع به إلى صفوف ناس مهذبين فيهم رقة تحول بينهم وبين أن يصيح أحدهم فيه، بتلك الكلمة القاسية المريرة «يا أعمى».

وكان طه قد أنفق أربعة أعوام فى الأزهر، كأنها أربعون عامًا، وقد خيّل إليه أن الفقر شرط من شروط الحياة هناك ولكنه لم يعد يطيق الأزهر، ولم يعد يهمه أن يواصل دراسته وأن يحصل على شهادته، فقطع صلته بالأزهر وذهب إلى الجامعة المصرية وانتسب إلى الدراسات المسائية ودفع رسومها جنيهًا واحدًا.