رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المستضعفات من المؤمنات

ضم حزب المستضعفين من المؤمنين الأوائل أسماء أخرى غير خبّاب وصهيب وعمار وبلال، فكان منهم عامر بن فهيرة الذى شهد مع النبى بدرًا وأحدًا، واستشهد يوم بئر معونة واختفت جثته، وأبوفكيهة، واسمه أفلح، وغيرهما، لكن الملفت أن هذا الحزب ضم أيضًا العديد من السيدات المؤمنات اللائى أهملهن التاريخ، وكن من أوائل من آمنّ بالنبى صلى الله عليه وسلم، قبل دخول دار الأرقم بن أبى الأرقم، ويسجل تاريخ الرسالة أن أول شهدائها كانت امرأة، ثارت لكرامتها وكرامة زوجها وولدها المهدرة فوق رمال مكة، وأغلظت القول لأبى جهل، وهى مقيدة بالأغلال على الأرض، وصرخت فى وجهه وأسمعته ما يكره أن يسمعه، فاغتاظ المشرك، ومزقها بحربته فسقطت شهيدة إيمانها. إنها سمية بنت خياط زوجة ياسر بن عامر ووالدة عمار بن ياسر.

المرأة كانت حاضرة بقوة سواء فى حزب المستضعفين من المؤمنين، أو حزب المستبدين من مشركى مكة، فقد حكيت لك عن «أم أنمار» التى كان خباب بن الأرت عبدًا لها، وكانت تستمتع بمشاهد تعذيبه هى وابنها «سباع»، أيضًا لم تكن هند بنت عتبة، زوجة أبى سفيان وأم جميل بنت حرب زوجة أبى لهب بعيدتين عن عمليات التعذيب الممنهج الذى مُورس ضد المستضعفين، والأرجح أنهما كانتا أكثر حماسًا لتعذيب المستضعفات من المؤمنات الأوائل، ومنهن لبيبة وزنيرة وأم عميس والنهدية.

«لبيبة» جارية بنى مؤمل بن حبيب بن عدى بن كعب. وبنو عدى بن كعب هم عشيرة عمر بن الخطاب، فمنهم خرج الخليفة الثانى رضى الله عنه، وحينما أسلمت «لبيبة» كان «عمر» لا يزال على شركه، وقد دأب على تعذيبها كل يوم حتى يفتنها عن دينها، وهى ثابتة تأبى العودة إلى الشرك بعد أن أنجاها الله منه. كان «عمر» يفعل ذلك كل يوم ثم يتركها ويقول: إنى لم أدعك إلا سآمةً، فتقول: كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم. لم يكن «عمر» يترك تعذيبها إلا بعد أن يملّ وهى صابرة محتسبة، وظلت كذلك حتى اشتراها أبوبكر فأعتقها.

لم تكن «لبيبة» وحدها هى ضحية التعذيب الذى مارسه عمر- قبل إسلامه- ضد المستضعفات، بل كانت معها أيضًا «زنيرة» وهى أيضًا جارية من جوارى بنى عدى. لم يكن عمر وحده هو من يعذبها، بل شاركه فى ذلك أبوجهل الذى ظل يعذبها حتى عميت، فقال لها: «إن اللات والعزى فعلا بك. فقالت: وما يدرى اللات والعزى من يعبدهما؟ ولكن هذا أمر من السماء، وربى قادر على رد بصرى، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد». ربما بالغ بعض كُتاب السيرة فى وصف هذا المشهد فوضعوه فى إطار سحرى عجائبى، وقد يكون كل ما فى الأمر أن المستضعفة المناضلة قد شعرت بفقد مؤقت للرؤية نتيجة التعذيب، ثم عادت إلى طبيعتها بعد ذلك، لكن القصة تؤشر فى كل الأحوال إلى ما تحملته المسكينة فى سبيل إيمانها، وقد جاء خلاصها- كما هى الحال مع لبيبة- حين اشتراها أبوبكر وأعتقها.

الأمر نفسه ينطبق على «النهدية»، وكانت مولاة لبنى نهد، فصارت لامرأة من بنى عبدالدار فأسلمت، وكانت تعذبها وتقول: والله لا أقلعت عنك أو يبتاعك بعض أصحاب محمد، فابتاعها أبوبكر فأعتقها. ومقولة امرأة بنى عبدالدار تشهد على أن أبا بكر مثل بالنسبة لبعض أهل مكة بابًا للتجارة فيمن أسلم من عبيدهم ومواليهم. وقد ظهر ذلك أيضًا مع أم عميس وهى جارية لبنى زهرة، وقد أسلمت وعُذبت من أجل إيمانها على يد الأسود بن عبد يغوث، الذى ظل على ذلك حتى ابتاعها أبوبكر فأعتقها.

كان أبوبكر النصير الأول للمستضعفين والمستضعفات من المؤمنين والمؤمنات الأوائل، ودفع من ماله الكثير فى سبيل ذلك. وقد أثار هذا الأمر أباه «أبوقحافة» فقال لابنه: «يا بنى إنى أراك تعتق ضعافًا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالًا جلداء يمنعونك ويقومون دونك؟!. فقال أبوبكر: يا أبتِ إنى إنما أريد ما أريد». ويشير «ابن كثير» إلى أن الآيات الكريمة التى تقول: «فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى» إلى آخر السورة نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه. فى المقابل كان موقف عمر شديد الحدة من المستضعفات قبل إسلامه، وقد تمددت هذه المسألة إلى أهل بيته، فحين علم أن أخته «فاطمة» قد أسلمت هى وزوجها، ذهب إليها بدارها، وضرب الاثنين، واختبأ منه خباب بن الأرت، الذى كان يعلمهما القرآن، حتى رق قلبه وقد وجد الدم يتقاطر من وجه أخته، فطلب منها الصحيفة التى كانت تقرأ فيها، فأمرته بالتطهر أولًا، ففعل، ثم استمع إلى آيات من سورة طه، هدى الله تعالى بها قلبه إلى الإيمان. وسبحان من يغير من حال إلى حال، فقد تحول «عمر» بعد إسلامه إلى أكبر حائط حماية للمستضعفين والمستضعفات من المؤمنين.

كانت سيدات مكة من المشركات حاضرات أيضًا فى الوجدان المسلم بعد الهجرة إلى المدينة، بل وبعد فتح مكة، فخلال موقعة أُحد كانت «أم أنمار» حاضرة، حين خرج ولدها «سباع» يطلب المبارزة قبل اشتباك الفريقين، فخرج له حمزة بن عبدالمطلب، وناداه قائلًا: يا سباع يا ابن أم أنمار يا ابن مقطعة البظور تحاد الله ورسوله؟ وبارزه وقتله. حضرت أيضًا هند بنت عتبة آكلة كبد «حمزة» بعد فتح مكة، فلم ينس لها النبى ولا المؤمنون أنها جاءت بعبدها وحشى وجعلته يتربص بحمزة خلال موقعة أُحد، وتحين منه لحظة انشغال وغدره بحربته فقضى عليه.

المرأة من الصلابة بمكان حين تؤمن.. ومن الصلابة بمكان أيضًا حين تعادى.