رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدعاة.. نجوم «كاسيت وتليفزيون وإنترنت»

أجاد السلفيون- أكثر من غيرهم من الإسلاميين- استخدام ما أفرزته تكنولوجيا الاتصال من أدوات خلال حقبة الثمانينيات وما بعدها، فعندما كان شريط الكاسيت هو الأداة الأبرز فى نقل الخطاب السلفى إلى الجمهور أجادوا استخدامه، ثم تطوروا بعد ذلك إلى استخدام الأدوات التى أتاحتها الأقمار الصناعية وتكنولوجيا البث المباشر، ثم اتجهوا بعدها إلى استخدام الأدوات المتاحة عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى.

تأثر السلفيون فى توظيف «شريط الكاسيت» بالثورة الإيرانية، التى وصفت بـ«ثورة شريط الكاسيت» نظرًا للدور الذى لعبته هذه الأداة فى نقل خطب آية الله الخمينى من منفاه فى فرنسا إلى كل ركن فى إيران، وكان لها أثر بالغ بعد ذلك فى تثوير الإيرانيين ضد نظام حكم الشاهنشاه محمد رضا بهلوى عام ١٩٧٩، برز العديد من نجوم الدعوة السلفية على شرائط الكاسيت خلال فترة حكم مبارك، واستفاد من هذه الأداة دعاة مثل أبوإسحق الحوينى ومحمد يعقوب ومحمد حسان وأسامة القوصى وغيرهم. كانت شرائط الدعاة السلفيين تُباع فى كل اتجاه، خصوصًا على الأرصفة والبسطات فى بعض الميادين، مثل ميدان العتبة، وأمام أبواب المساجد، خصوصًا المساجد التى يسيطر عليها السلفيون، وما أكثر ما كان يتم تشغيلها فى البيوت والسيارات الأجرة ومن ميكروفونات المساجد، ما أتاح فرصة كبيرة أمام الفكر السلفى للتمدد والانتشار داخل المجتمع. كل ذلك كان يحدث تحت سمع وبصر السلطة خلال حقبتى الثمانينيات والتسعينيات، لأن هذا التيار لم يكن يقلق «مبارك» بسبب بُعد أصحابه عن السياسة، وتفرغهم للنشاطين الدعوى والتجارى، بالإضافة إلى نظرته إليهم كمنافس للإخوان وليس لنظام حكمه.

حقق التيار السلفى الدعوى نقلة نوعية جديدة مع ظهور تكنولوجيا البث الفضائى وانتشار القنوات التليفزيونية الفضائية. فمن الظواهر اللافتة التى اقترنت بفترة البدايات للتوغل الفضائى التليفزيونى على مستوى المنطقة العربية السيطرة الواضحة لكل من القنوات الدينية والغنائية على خريطة البث. كانت الكتلة الأكبر من القنوات المتخصصة التى ظهرت، تقع فى إطار واحد من هاتين الفئتين، وقد بلغ إجمالى عدد القنوات الدينية على مستوى العالم العربى خلال العقد الأول من الألفية الجديدة «٥٨ قناة» تركزت فى إطار عشر دول، بالإضافة إلى قناة واحدة أجنبية «تابعة لدولة إسلامية»، تحددت فى: السعودية والعراق والكويت والإمارات والأردن وقطر ومصر والمغرب وليبيا والبحرين. وفى المقابل لم تظهر قنوات دينية تابعة لكل من سوريا وتونس واليمن والسودان وموريتانيا والجزائر وجيبوتى وعمان وإريتريا وفلسطين. 

والمتأمل لخريطة القنوات الدينية، خلال هذه الفترة، سيجد أنها تنوعت بين قنوات دينية إسلامية غالبة، وقنوات مسيحية محدودة العدد، وعبّر بعض القنوات الدينية الإسلامية عن معتنقى المذهب السنى- وهى القنوات الأكثر- وعبّر بعضها الآخر عن معتنقى المذهب الشيعى، وتتبع القنوات الأخيرة، بصورة أساسية، دولة العراق، بالإضافة إلى قنوات أخرى إيرانية. ويعنى ذلك أن الفضاء التليفزيونى الدينى عكس خلال الحقبة الأولى من الألفية الجديدة حالة الاستقطاب الدينى والمذهبى فى الخطاب العربى، كما عكس أيضًا السيطرة السعودية فى مجال القنوات الدينية.

فى سياق هذا الزخم حلّق نجوم الدعوة السلفية من أرض «الكاسيت» إلى منصة نجومية جديدة عبر القنوات التليفزيونية الفضائية، وبات خطاب السلفيين داخل كل منزل، وأصبحت الأفكار السلفية مشاعًا داخل المجتمع، ولا يستطيع أحد أن ينكر نجاح السلفيين فى نشر رؤيتهم الخاصة للإسلام لدى قطاعات متسعة من المصريين، وأن بعض دعاتهم قاموا، فى بعض الأحوال، بتهيئة الأفراد لقبول فكر جماعة الإخوان، خصوصًا أنها هى الأخرى لا تختلف مع السلفيين فى فكرة الإحياء وتجميد التاريخ عند حقبة مثالية معينة تحلم باستعادتها، لكنها- خلافًا لهم- تسعى إلى أطر الواقع على ذلك عبر السيطرة على السلطة وإقامة دولة طبقًا لتصورهم الخاص.

التغلغل السلفى لم يحدث عبر وسائل الإعلام وفقط، فمن خلال احترافهم العمل التجارى، وانتشار مشروعاتهم الصغيرة والمتنوعة فى كل المحافظات، وتغطية سلاسل مشروعاتهم الكبرى للعديد من المناطق، وفروا لأنفسهم أداة جيدة للاتصال الشخصى، ساهمت فى نشر الفكر السلفى بقدر من العفوية والتلقائية، ودعّم من هذا الانتشار سكوت السلفيين على المسألة السياسية، وعدم انخراطهم فيها بأى صورة من الصورة، باستثناء الجناح الجهادى «السلفية الجهادية»، وتعاونهم مع أجهزة الدولة بصورة جعلتهم موضع ثقة وأمان إلى حد كبير طيلة العصر المباركى.

والواضح أن السلفيين بأطيافهم وجماعاتهم المختلفة كانوا حريصين على طمأنة السلطة المباركية، واعتبرتها ولى الأمر الشرعى الذى يتوجب السمع والطاعة له، ويُحرم الخروج عليه بأى صورة من الصور، حتى لو اتخذ ذلك شكل بعض الاحتجاجات العادية، وقد أثبتت التجربة أن الأداء السلفى اعتمد إلى حد ما على فكرة «التقيّة»، وتأكد ذلك بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ حين تحوّل التيار السلفى إلى واحد من أكثر الفاعلين تأثيرًا على مسرح السياسة، سواء على مستوى الحشد فى المليونيات، أو على مستوى الانتخابات. وقد نوّعوا فى أسلوب لعبهم السياسى بين التنسيق مع الفاعلين الآخرين على الساحة، خصوصًا بعض الفاعلين الإسلاميين، والتحرك المستقل طبقًا لرؤيتهم ومنظومة مصالحهم. 

كان الأخطبوط السلفى الذى رباه حسنى مبارك، خلال فترة حكمه، قد استوى على عوده فى نهاية عصره، فأظهر ما كان يخفيه، وبدأ يطرح مشروعه فى الحكم بالشريعة كجوهر من جواهر الفكر الذى يتحرك به.