رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الذين أحسنوا «الاختيار»

إحدى أكبر مآسى الدولة المصرية الحديثة أنها لم تكتب تاريخها كما جرى.. أهملت دولة يوليو كتابة تاريخها السياسى وتركته للمذكرات والأهواء والصفقات الشخصية.. ربما لأن النكسة داهمت الدولة وهى ما زالت فى مرحلة الصعود فقضت على مشروعها.. وربما بسبب التغيرات فى السياسة الداخلية والخارجية عقب تولى الرئيس السادات.. أخرج السادات الإخوان من السجون وترك لهم حرية تشكيل الرأى العام.. كانت المأساة الحقيقية أن الإخوان كتبوا تاريخ ثورة يوليو من وجهة نظرهم.. من السبعينيات حتى التسعينيات امتلأت الأرصفة والمكتبات بالكتب التى تروى التاريخ من وجهة نظر الإخوان.. كنت واحدًا من الجيل الذى استهدفته هذه الكتب وخلقت لديه حالة تعاطف مزيفة مع جماعة الإخوان لفترة قليلة.. معظم الكتب صاغها صحفيون إخوان تربوا فى فترة الأربعينيات وكانت لديهم صنعة الكتابة، من أشهرهم الصحفى جابر رزق وكذلك أستاذ التاريخ الإخوانى زكريا سليمان.. ولسبب ما كان بعض كبار الكتّاب يتبنون الرواية الإخوانية التاريخية كاملة، منهم الأستاذ محسن محمد والكاتب أنيس منصور.. كان هناك كتاب زينب الغزالى الشهير «أيام من حياتى» والذى اعترف ملياردير الإخوان يوسف ندا بزيف ما جاء فيه وبأنه هو الذى أملى عليها وقائع التعذيب التى وردت فيه.. كتب عمر التلمسانى ومحمد حامد أبوالنصر، مرشدا الإخوان، مذكرات ذكرا فيها وجهة نظر الإخوان حول ما جرى أو «أكاذيب الإخوان» حول ما جرى.. وكان هناك عشرات من الكتب كلها تهدف لهذا الهدف.. من جهة أخرى كانت جهود تأريخ صدام الإخوان بالدولة فى ١٩٥٤ و١٩٦٥ محدودة للغاية.. وأشهرها جهد قام به الصحفى الكبير الأستاذ عبدالله إمام.. وكان من اللافت مثلًا أن الأستاذ هيكل لم يخصص أيًا من كتبه لرواية وقائع الصدام بين عبدالناصر والإخوان رغم إلمامه بكل التفاصيل، وأظن أن ذلك كان وفق تصور معين لتقارب ناصرى إخوانى أو إسلامى قومى.. شكّل الرئيس مبارك لجنة لكتابة تاريخ مصر الحديث.. لكنها لم تنته إلى شىء ولم يخرج منها شىء.. انفراد الإخوان برواية التاريخ دمر وعى أجيال كاملة من المصريين وأحدث حالة من الارتباك والاستقطاب وتشويه الوعى.. هذه الخلفية مهمة جدًا ونحن نقيّم إنتاج مسلسل مثل «الاختيار».. هذا المسلسل أخذ على عاتقه تأريخ وقائع ما جرى فى مصر منذ ثلاثين يونيو.. كانت نقطة التميز الحقيقية أن الحلقات تكشف تفاصيل وأسرارًا كانت خافية على المصريين حتى لحظة إذاعة المسلسل.. ألقت الحلقات أضواء كاشفة على مواقف وفسرت حوادث وأرّخت لمؤامرات ولبطولات.. مع الوقت تحقق هدف آخر وهو تقديم نموذج لبطل شعبى تتعلق به الأجيال الجديدة وتصدق أنه يعمل من أجل قضية ما أو مبدأ يؤمن به.. بطل ليس مستوردًا مثل «رامبو» و«روكى»، وليس متخيلًا مثل «رجل المستحيل».. ربما لأن الصراع فرض على الواقع أن يفرز أبطاله الحقيقيين.. أخذ المسلسل على عاتقه التأريخ للصراع على مصر بين من يريد أن يصون ومن يريد أن يبدد.. بدأ بالعد التنازلى.. فالجزء الأول غطى الحرب ضد الإرهاب فى سيناء وقصة بطولة أحمد منسى واستشهاده فى يوليو ٢٠١٧.. وكان الجزء الأول يذاع بعد ثلاث سنوات فقط من استشهاد منسى «رمضان الموافق يونيو ٢٠٢٠».. ثم رجع الجزء الثانى أربع سنوات للوراء ليغطى ما جرى فى رابعة واستشهاد ضابط وطنى آخر هو المقدم محمد مبروك، مسئول ملف الإخوان فى جهاز الأمن الوطنى، ويكشف وقائع خيانة أحد زملائه له.. وها نحن فى انتظار الجزء الثالث الذى يرجع عدة أيام أو شهور قبل فض رابعة ليروى وقائع ٣٠ يونيو نفسها وموقف الجيش المصرى من تهديدات الإخوان المصريين.. وفى ظنى أن هذا الجزء سيكون أكثر الأجزاء تسببًا فى الصدمة لعناصر الإخوان وجمهورهم.. لأنه سيكشف قادة الجماعة أمام قواعدها.. جزء من سيطرة قادة الإخوان على القاعدة الإخوانية هو فكرة المظلومية وأنهم مضطهدون وضحايا لمؤامرة دائمة.. هذا يؤدى لاستسلام الأعضاء وسيرهم خلف قيادات الجماعة.. الحقيقة أن قادة الجماعة يتميزون بعدم الكفاءة والغباء السياسى والمحدودية فى الرؤية وأكبرهم لا يصلح سوى لإدارة محل بقالة بالمعنى الحرفى.. هذا يدفع كوادر الجماعة للتمرد على القيادات؛ لأن الصدام لم يكن حتميًا سوى لأن القيادات أرادوه حتميًا.. والإرهاب الذى دبروا له تمت هزيمته ومن ثم فقد دفع أعضاؤهم ثمنًا فادحًا فى مقابل اللا شىء حرفيًا.. أو فى مقابل هزيمة جديدة، وهذه هى الخطورة الحقيقية للحلقات أنها ستضع الإخوان فى مواجهة أنفسهم وقادتهم وكوادرهم وتذكرهم ليسألوا أنفسهم: هل كان لا بد أن يجرى ما جرى؟ وماذا لو كنا قبلنا رغبة الناس فى أن نرحل، استجبنا لعرض القوات المسلحة بالمشاركة فى بيان الثالث من يوليو.. ألم يكن ذلك أفضل؟ أتوقع أن حلقات الجزء الثالث ستمسك الإخوان بالقوة وتجبرهم على أن ينظروا فى مرآة التاريخ ويطالعوا صورتهم.. وهذا أكثر ما سيثير ألمهم.