رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

علاقة قديمة متجددة

علاقة الرئيس أنور السادات بجماعة الإخوان قديمة، وقد حكى فى سيرته الذاتية «البحث عن الذات» أن الإخوان اتصلوا به عندما كان ضابطًا، وأنه تعرف على حسن البنا عندما جاءه مَن يخبره بأن رجلًا بالباب يريد أن يؤذن له ليخطب فى الجنود بمناسبة ذكرى مولد النبى، صلى الله عليه وسلم. يصف السادات «البنا» قائلًا: «كان ممتازًا فى اختياره للموضوعات وفهمه للدين وشرحه وإلقائه.. من كل النواحى فعلًا كان مؤهلًا للزعامة الدينية، هذا إلى جانب أنه كان مصريًا صميمًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من دماثة خلق وسماحة وبساطة فى معاملة الناس.. وكان الرجل يتحدث عن الدين والدنيا معًا وبأسلوب جديد لم نألفه فى رجل دين».

لم يكن «السادات» غريبًا على التنظيمات ذات التوجه الدينى، بل تقلب على بعضها قبل ثورة يوليو، وخبرته بالعمل تحت الأرض ومن خلال التنظيمات السرية تجعل تفاعله مع حسن البنا مسألة طبيعية ومبررة، وقد تعاون «السادات» بالفعل معه وصارحه قبل ١٩٥٢ بأنه يكوّن تنظيمًا من أجل الاستيلاء على الحكم.

وترتيبًا على ذلك يمكننا القول إن تفكير «السادات» فى توظيف الجماعة كظهير شعبى له بدا طبيعيًا، فعندما أنشأ عبدالناصر هيئة التحرير كان يستهدف إيجاد تنظيم يلعب دور الظهير الشعبى له بدلًا من الإخوان، وقد اختار لرئاستها رجلًا يتمتع بنفس إخوانى واضح وهو الأستاذ سيد قطب، ومن بعد أنشأ عبدالناصر الاتحاد القومى كبديل لهيئة التحرير، وهو التنظيم الذى ورثه عام ١٩٦٢ الاتحاد الاشتراكى، وكان الأمين العام له هو رجل المخابرات على صبرى.

ومنذ مجيئه إلى الحكم لم يكن الاتحاد الاشتراكى فى قبضة السادات، وكان يعلم أن التنظيم بقياداته وكوادره له موقف مناوئ منه، وقد حكى السادات فى كتابه «البحث عن الذات»، أن على صبرى ومجموعته تحفظوا على مسألة استفتاء الشعب على اسمه بعد وفاة عبدالناصر، قائلين إن رفضه يعنى رفضًا لثورة ٢٣ يوليو، وأصر السادات على موقفه ورد عليهم بأن الشعب لو رفضه ففى الإمكان الدفع باسم آخر للاستفتاء عليه دون مشكلة. ولا أجدنى بحاجة لأحكى لك تفاصيل ما حدث بعد ذلك من مجىء نتائج الاستفتاء فى صالح «السادات»، ثم الخطوة التى قام بها السادات للتخلص من رجال عبدالناصر فى ١٥ مايو ممن وصفهم بـ«مراكز القوى».

كان من الطبيعى أن يتجه «السادات» بتفكيره إلى جماعة الإخوان كظهير شعبى من الممكن أن يتعاون معه، بسبب يأسه من قيام الاتحاد الاشتراكى بهذا الدور، وهو التنظيم الذى تسيطر عليه الأفكار الماركسية والناصرية، كما قرر الرئيس فى أكثر من مناسبة. ويمكن القول إن تعاون السادات مع الإخوان كان «تكتيكيًا» بامتياز، فقد بادر بالإفراج عن قيادات الجماعة وكوادرها القابعة فى السجون. بدأت عملية الإفراج بالمرشد العام للجماعة حسن الهضيبى فى ١٥ أكتوبر ١٩٧١، وعدد آخر من قيادات الجماعة وكوادرها. كان «السادات» حينها يفكر فى إيجاد البديل الشعبى القادر على مواجهة كوادر الاتحاد الاشتراكى ذوى الاتجاهات اليسارية والناصرية فى الشارع، ولعب بعض الشخصيات المحيطة به على دفع الفكرة إلى ذهنه ليفحصها ويتخذ بشأنها قرارًا، ومن بينهم محافظ أسيوط الأسبق محمد عثمان إسماعيل، وعثمان أحمد عثمان، لكنه لم يحسم فى الأمر برأى، فاكتفى بطرح الموضوع على مائدة التفكير، حتى تدافعت الأحداث فى اتجاه التفكير الجدى فى منح الإخوان والتيارات الإسلامية المنبثقة عنها فرصة العمل، خصوصًا داخل الجامعات.

انتفض طلاب الجامعات بصورة عارمة عام ١٩٧٢ «عام الضباب»، والتحمت المظاهرات التى احتضنها الطلاب من كل اتجاه حتى وصلت إلى ميدان التحرير واعتصموا حول كعكته الحجرية. قاد هذه المظاهرات عدد من الكوادر الطلابية اليسارية والناصرية التى طالبت بتجاوز مرحلة اللا سلم واللا حرب وبدء معركة تحرير سيناء. تنبه «السادات» من جديد إلى الخطر الذى يحيق به، فبدأ يفكر من جديد فى الحل المطروح لبناء شعبية داعمة له ومناوئة فى الوقت نفسه لليسار والناصريين، عبر تمكين كوادر الإسلام الجماعاتى من الوجود فى الشارع.

أحداث عديدة وقعت فيما بعد دفعت «السادات»، رحمه الله، إلى التأنى فى إدخال الفكرة إلى حيز التنفيذ، ونبهته إلى ضرورة الحذر من احتضان التيار الإسلامى ودفسه فى حجره، وهو لا يأمن أن يلدغه. كان من أبرز هذه الأحداث واقعة «الفنية العسكرية» التى تولى كبرها التنظيم الذى حمل الاسم نفسه، وقاده الدكتور صالح سرية.

«صالح سرية» فلسطينى الأصل اعتاد التحرك داخل العديد من الدول العربية، وقام بنشاط إسلامى فيها، واستقر به المقام فى مصر أوائل السبعينيات لإنجاز رسالته لنيل درجة الدكتوراه فى علوم التربية من كلية التربية جامعة عين شمس وتمكن من الحصول عليها. تأثر «سرية» بأفكار وتجربة سيد قطب تأثرًا بالغًا سواء على مستوى التفكير النظرى أو السلوك الحركى، فالقارئ للكتيب الذى سطّره صالح سرية تحت عنوان «رسالة الإيمان» يلاحظ الحضور المكثف للعديد من الأفكار والمفاهيم التأسيسية التى ظهرت فى كتاب سيد قطب: «معالم فى الطريق»، فقد تبنى مصطلح الجاهلية واتهم المجتمعات التى لا تحكم بما أنزل الله بالكفر والمروق من الدين حتى ولو كان أبناؤها من المسلمين، وقسّم العالم إلى دارين: دار الإسلام التى تحكم بما أنزل الله، ودار الكفر التى تحكم بالهوى والتشريع البشرى. واعتبر «سرية» أن المسلمين المعاصرين ارتدوا ردة جماعية تشبه الردة التى حدثت فى عصر أبى بكر الصديق!. وإذا كان أبوبكر الصديق قد حارب المرتدين حتى يعيدهم إلى حظيرة الإسلام فالواجب على أى تنظيم جماعاتى إسلامى أن يجاهد هو الآخر فى حرب المرتدين المعاصرين حتى يعودوا إلى الطريق. 

حاول صالح سرية الانقلاب على الحكم عام ١٩٧٤، لكن محاولته باءت بالفشل وحكم عليه بالإعدام، ونُفذ الحكم. ومن بعد كانت حركة شكرى مصطفى والجماعة التى قادها وسماها «جماعة المسلمين»، فى حين أطلقت عليها الجهات المسئولة «التكفير والهجرة»، وقامت باختطاف وزير الأوقاف الأسبق محمد حسين الذهبى الذى أدان أفكار الجماعات التكفيرية واغتالته، وألقى القبض على شكرى وأتباعه وحكم عليه بالإعدام ونفذ فيه.

ظل السادات يتعامل مع فكرة الدفع بالإسلاميين إلى الشارع بنوع من الحذر حتى وقع المقدور فى انتفاضة ١٩٧٧.. ومن المقدور لا ينجو الحذر.