رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا المصرى

بالأمس كانت الذكرى العاشرة لنياحة «الأنبا شنودة».. بابا الإسكندرية الذى اجتمع المصريون على حبه.. صاحب الألقاب المتعددة، فهو الشاعر والصحفى والضابط المقاتل والراهب والبابا.. وهو المصرى ابن النكتة.. خفيف الدم.. صاحب الذكاء اللماح والقافية المحبوكة التى لم يكن ينافسه فيها من أبناء عصره سوى عبقرى آخر هو نجيب محفوظ.. من ألقاب البابا شنودة أيضًا أنه بابا العرب، وقد سمى بهذا الاسم بسبب مواقفه فى دعم القضية الفلسطينية ورفضه أى تفرقة بين العرب فى التعامل مع القضية الفلسطينية إلا فى إطار وطنى واحد.. على أن أعظم ما فى البابا شنودة هو مصريته.. لقد أدرك هذا الراهب المصرى أن مصر هى التى اختارها الله لتحتضن المسيحية ولتهديها للعالم.. لذلك كان ينظر باستخفاف لمحاولات الغرب الحديث باسم الأقباط أو فرض وصايته عليهم فى بعض المراحل التاريخية، فقد كان يتعامل مع الكنيسة المصرية على أنها هى الأصل ويعى أنها أقدم كنيسة فى التاريخ وأن الآخرين ينسبون إليها ولا تنسب هى لهم.. وقد كان فى هذا وفيًا لميراث البطاركة العظام الذين رفضوا أى محاولات للوصاية الغربية على الكنيسة المصرية منذ قرون طويلة حتى الآن، حتى إنه صار لكل منهم عبارة شهيرة وشاعرية يلخص بها موقفه وموقف الكنيسة من كل شىء.. وقد كان نصيب البابا شنودة من هذه العبارات العبارة الرائعة التى يقول فيها «مصر وطن يعيش فينا لا وطن نعيش فيه»، وهى عبارة لا يكتبها سوى شاعر.. وقد كان البابا شنودة شاعرًا بالفعل قبل أن يترك حياته الدنيوية ويسلك طريق الرهبنة.. قراءة تاريخ البابا شنودة تدلك على أنه واحد من الجيل الذهبى من المصريين الذين ولدوا فى العقدين الثانى والثالث من القرن العشرين ومنهم «نجيب محفوظ، حسنين هيكل، الشعراوى، البابا شنودة»، وقد تأثروا جميعًا بحالة النهضة التى أحدثتها ثورة ١٩١٩ فى المجتمع، وبحالة الألق الثقافى والفنى والسياسى التى شهدتها مصر.. وهو واحد من جيل المثقفين الأقباط الذين رغبوا فى خدمة وطنهم واختاروا الخدمة الدينية كطريق لهذا.. ولم يكن غريبًا أن يغادر البابا حياته كصحفى وسياسى فى حزب الكتلة وأن يلتحق بسلك الرهبنة ليكون واحدًا من أول دفعة من الرهبان المثقفين والمتعلمين فى الكنيسة المصرية، اتسم البابا شنودة بأنه مصرى حتى النخاع.. مصرى تقليدى من أسيوط.. حريص على التقاليد الشرقية لدرجة التشدد، لا يشعر أن وحدة الدين يمكن أن تجعله قريبًا من الغرب المسيحى ولو بمقدار ذرة واحدة، ويدرك أن المسيحية تنسب لمصر ولا تنسب مصر للمسيحية.. كان عنيدًا لكنه كان حكيمًا، امتص سنوات صعود المتطرفين بحكمة وصلابة وعناد وبقيت مصر فى قلبه دائمًا، من علامات حكمته مثلًا إدارته علاقته بالداعية الشهير محمد متولى الشعراوى وهو من هو.. حيث كان بعض الأساقفة يتعامل بحساسية مع بعض خواطر الشيخ الشعراوى وكان البابا يلتزم الصمت، ثم مرض الشيخ الشعراوى وسافر إلى لندن ليجرى عملية جراحية، وفوجئ بكل الأساقفة الموجودين فى لندن يبادرون بزيارته ويخبرونه بأن البابا كلفهم بأن يكونوا فى خدمته طوال وجوده فى لندن، وهو نفس ما فعله الأطباء من أصل مصرى فى المستشفى، وهو ما جعل الشيخ يشعر بالامتنان الشديد ويبادر لزيارة البابا شنودة فور عودته، وقد كان اللقاء تاريخيًا، وحظى بتغطية إعلامية مكثفة، وأهدى الشيخ للبابا موسوعة ابن منظور «لسان العرب» لإدراكه اهتمام البابا بالأدب العربى وبالثقافة الإسلامية بشكل عام، وقد انعكس اللقاء على أجواء الوحدة الوطنية بشكل إيجابى وجعل الشيخ الشعراوى يتلافى ما يثير حساسية البعض حتى ولو دون قصد، وكان هذا إحدى علامات حكمة هذا المصرى الصعيدى.. ابن البلد.. حتى فى السنوات التى اشتط فيها المتطرفون.. كان الرجل يتعامل بمزيج من الحكمة والصلابة واللين والتشدد.. وكانت النتيجة أن ذهب التطرف والمتطرفون وبقيت مصر، وبقيت ذكراه عطرة ومنيرة ومشرقة كواحد من رموز هذا الوطن ومن كبار الوطنيين المصريين الذين تحفظهم مصر فى قلبها على مر الزمن.. طبت حيًا وميتًا يا سليل البطاركة العظام وابن مصر البار والمخلص.