رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التنمية بأثر رجعى

فى حدود سنة ٢٠٠٣ كنت من أوائل من سكنوا مدينة السادس من أكتوبر، استهوتنى فكرة البعد عن الزحام والاستمتاع بمواصفات سكن آدمى بسعر مناسب، كنت أنزل من المدينة يوميًا مرة أو أكثر مستعينًا بطاقة الشباب وحماسه للعمل والوجود فى مواقع الأحداث، بعد قليل لفت نظرى وجود خلل فى الفواصل التى تربط محور السادس من أكتوبر ببعضها البعض، فى جزء معين من الطريق لا يصبح مستويًا ولكنه يرتفع فجأة ويبرز من ثنايا الأرض فاصل حديدى بعرض الطريق.. كان الأمر يبدو لغير المتخصص وكأن قطعتين ملصوقتين قد انفك الغراء الذى كان يربطهما ويجعلهما شيئًا واحدًا.. كان الأمر يستدعى أن تبطئ السرعة تمامًا وكأنك تمر بمطب، رغم أن هذا العطب فى الطريق لم يكن مطبًا، ولم يكن ثمة إشارة إليه، مع الوقت انتبهت حاسة الصحفى داخلى وبدأت أرصد الحوادث التى تقع على المحور، كنت أشاهد حادثة واحدة على الأقل يوميًا، وكان الضحايا غالبًا ممن يستخدمون الطريق للمرة الأولى إذ يسيرون بأقصى سرعة ثم يفاجأون بالبروز الحديدى الناتج عن الفساد فتطير السيارة وتنقلب فى الهواء.. استفزنى ما يحدث فطرحت الموضوع على مسئول المجلة التى كنت أعمل بها واقترحت تكليف محرر الحوادث بإحصاء عدد حوادث السيارات على المحور فى آخر ثلاثة أشهر وكنت متأكدًا مما أقول تأكد شاهد العيان مما يراه بعينيه يوميًا، لأسباب قيل لى إنها تتعلق بالمواءمة السياسية لم يتم تنفيذ الفكرة، حيث قيل إن وزير التعمير وقتها مقرب للغاية من أشخاص فى القصر الرئاسى وربما من الرئيس نفسه، بعدها تم التحقيق مع الرجل فى قضايا فساد متعددة وتصالح بمبلغ يفوق المليار جنيه تعويضًا لما سرقه أثناء توليه الوزارة، وللأمانة فإنه بمجرد ما تغيرت الوزارة عام ٢٠٠٤ وجاء وزير إسكان آخر تمت معالجة هذا العيب القاتل، واختفت الحوادث اليومية على المحور، كنت أقول لنفسى ما هذا العمى السياسى الذى يجعل الجميع يتعامى عن رصد حادث يقع بشكل شبه يومى ويروح فيه ضحايا فى عمر الورود وأحيانًا أسر كاملة.. كنت أقول أيضًا ما هذا الكسل والتراخى الذى يجعل إصلاح طريق مسألة صعبة على دولة كاملة، بحيث يترك عيب قاتل فى طريق سريع شهورًا كاملة حتى يتم تغيير الوزير الذى يبدو أنه كان منشغلًا بالفساد.. هذه القصة التى طالما ألحت علىّ لأكتبها تبدو وثيقة الصلة بما قاله الرئيس فى افتتاحات الطرق والمشاريع السكانية بالأمس، فالدولة تمارس التنمية بأثر رجعى، وتنشغل بمعالجة أخطاء الماضى ومواجهة أعباء الحاضر، والتخطيط للمستقبل، حى مثل بولاق الدكرور الذى تحدث عنه الرئيس بالأمس هو امتداد عشوائى لحى المهندسين الراقى، الفارق الوحيد بينهما أن حى المهندسين تم تخطيطه وإمداده بالمرافق والخدمات، لو امتد التخطيط والترفيق لما بعد «كوبرى الخشب» لأصبح لدينا حى راق أو مخطط آخر اسمه بولاق الدكرور، لكن الدولة انسحبت من دورها فأصبحت لدينا كتلة عشوائية تحمل اسم الصين الشعبية، خطط المواطنون لأنفسهم، وبنوا لأنفسهم، وعالجوا أنفسهم، وثقفوا أنفسهم، ولجأوا إلى الجلسات العرفية بدلًا من المحاكم، فأصبحت كل علاقتهم بالحكومة هى الخوف وربما الكراهية، أصبحت «الحكومة» بالنسبة لهم هى ضابط مباحث القسم ورجاله، والذين يطلق عليهم أهالى العشوائيات لفظ «الحكومة».. لا يعنى هذا التقليل من مجهود رجال الشرطة، بل إنهم فى وقت من الأوقات كانوا يشكون من أن رجال الأمن يتحملون تقصير باقى الوزارات وما ينتج عنه من انفلات واضطرابات أمنية، والحقيقة أنهم كانوا يدفعون ثمن قصور رؤية الدولة فى التنمية، ولجوئها لسياسة تعرف بسياسة «يوم بيوم» وعدم التفكير فى التنمية المخططة والمستدامة التى تنفذها مصر اليوم بأعلى سرعة تنفيذ وكفاءة ممكنة، كانت الحكومات قاصرة وعاجزة وكانت تجد من يبرر لها، وأذكر أنه بعد عام ٢٠٠٥ وبعد أن بلغت الأزمة السياسية مدى كبيرًا فإن عددًا من رؤساء التحرير تخصصوا فى تبرير حالة الشلل المرورى فى القاهرة، فكان بعضهم يكتب أنه سافر إلى لندن واكتشف أن حالة المرور فى القاهرة أجمل من حالته فى لندن بكثير! ويقول آخر إنه قضى ثلاث ساعات فى إشارة مرور بموسكو فاكتشف كم هو محظوظ بحالة المرور فى شوارع القاهرة!! كان هناك هروب من المشكلات وتأجيل للمواجهة، وكانت الصحف تكتب عن بعض المشروعات التى انتهينا منها العام الماضى أنها ستنتهى فى عام ٢٠٥٠!!! أى بعد ثلاثين عامًا من الآن وكان المسئول عن مخطط التطوير هو د. مصطفى مدبولى نفسه ولكن الفارق أنه وجد رئيسًا ذا عزيمة وإصرار وجرأة، ووجد قوات مسلحة تزيل الصعب ووفر له الرئيس التمويل والدعم الكافى بعد أن أدرك أن كل تأخير فى التنفيذ سيكلفنا أضعاف أضعاف القيمة المادية كلما تأخرنا أكثر، لو مارست الدولة دورها فى التخطيط لما كان لدينا مئات المناطق العشوائية من الأساس، ولما احتجنا لإنفاق عشرات المليارات لنقل سكانها، ولما اضطررنا للبناء بأسعار ٢٠٢٢ فى حين كان يمكننا أن نبنى بأسعار ١٩٩٠ وما بعدها وما قبلها، إن جزءًا من معضلة التنمية فى مصر حاليًا أننا نمارس التنمية بأثر رجعى، ونعود للماضى نعالج آثاره بدلًا من أن ننطلق للمستقبل نستكشف آفاقه، وكأننا نريد أن نكسب سباقًا للجرى وأقدامنا مربوطة فيها أكياس من الرمل لا بد أن نتخلص منها أولًا قبل أن ننطلق فى الجرى.. معضلة حقيقة، لكن أملنا فى بلدنا كبير.. ولن يخيب أملنا بإذن الله.