رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نهاية عصر «بهدلة» الفنان المصرى

قرأت خبر اتصال مؤسسة الرئاسة بالفنان سمير صبرى وتذكرت قصة «فاطمة رشدى» وهى قصة ذات أبعاد سياسية قبل أن تكون لها أبعاد إنسانية.. كانت فاطمة رشدى «١٩٠٨-١٩٩٦» من رائدات التمثيل فى مصر، كانت جميلة ولها حضور، أحبها المخرج عزيز عيد فعلّمها وتزوجها، وهكذا جمعت بين جمال الشكل وعمق المضمون، تألقت على المسارح فى بداية القرن وقادها النجاح إلى أن تكوّن فرقة مسرحية خاصة باسمها تنافس بها عمالقة المسرح يوسف وهبى ونجيب الريحانى وعلى الكسار، تألقت حتى أطلق عليها النقاد لقب «سارة برنار الشرق»، وفى ١٩٣٩ لعبت بطولة فيلم «العزيمة» أول فيلم واقعى مصرى للمخرج كامل سليم، ولعلنا جميعًا نذكر الحوار الذى كان يدور بينها وبطل الفيلم حسين صدقى وتخاطبه فيه قائلة «يا محمد أفندى»! رغم أنه يلعب دور حبيبها فى الفيلم.. مرت الأيام وذبل جمال فاطمة رشدى كما تذبل كل الورود الجميلة، انسحبت عنها الأضواء وتزوجت زيجات غير موفقة أفقدتها إحداها كل مدخراتها التى لم تكن كثيرة، لسبب ما لم تواصل فاطمة رشدى تقديم أدوار السيدات الكبيرات فى السن أو الأمهات، وانزوت فى طى النسيان أصبحت فقيرة ووحيدة وبلا مأوى، ولسبب ما ربما له علاقة بقلة حيلتها أو اعتزازها بكرامتها لم تلجأ لأحد من معارفها الذين مات معظمهم، ما أذكره دون الرجوع للأرشيف فى فترة الثمانينيات أنه تم اكتشاف أمرها صدفة وكتبت عنها الصحافة أخبارًا صغيرة، وكان الفنان فريد شوقى هو الوحيد الذى يعرف قيمة فاطمة رشدى ومثّل أدوارًا فى فرقتها وهو فنان صغير، تدخل فريد شوقى بجهود فردية منه وأثار القضية، وتم جمع تبرعات واشترت نقابة الممثلين شقة صغيرة أقامت فيها فاطمة رشدى حتى وفاتها.. لم يحدث تدخل حاسم من الدولة وعانت فاطمة رشدى سنوات طويلة حتى اشترى لها أهل الخير شقة على نفقتهم.. هذا هو المشهد الأول فتذكره واربط بينه والمشهد الثانى. 

المشهد الثانى 

فى بداية الثمانينيات سرت موجة من اعتزال الفنانات والفنانين وتحولهم إلى دعاة دينيين ينتمون لمذهب فقهى معين، كانت الظاهرة أشبه بتيار عام بشكل يصعب معه أن نقول إنها حالات فردية، كانت أسر كاملة من الفنانين والفنانات تعلن أنها اقتنعت بأن الفن حرام وأن الاستديوهات مسارح للرذيلة، كانت الفنانات يرتدين النقاب والفنانون يطلقون اللحية، وكان الملاحظ أن بعضهم يزدهر اقتصاديًا بعد اعتزال الفن، بعض الفنانات أدرن جمعيات خيرية ملحقة بها مساجد ومستوصفات ومدارس ومراكز تشغيل فى أحياء مثل المهندسين ومصر الجديدة، وبعض الفنانين دخلوا فى أنشطة لإنتاج مسلسلات دينية وبرامج تشتريها تليفزيونات دول عربية معينة فى منطقة الخليج العربى، ثارت شائعات عن مبالغ مالية يدفعها متبرعون من خارج مصر لإغواء الفنانات وإقناعهن بارتداء الحجاب، وقال الصحفى محمود فوزى فى حوار له مع الداعية عمر عبدالكافى إن المبلغ هو مليون جنيه مصرى لكل فنانة تعتزل «مبلغ كبير جدًا بأسعار الثمانينيات»، ونشرت صحيفة المحرر التى تصدر فى باريس خبرًا يقول إن الدولة المصرية أرسلت معلومات لدولة شقيقة تثبت تورط مؤسسة مالية تدعى «الراجحى للصرافة» فى تمويل نشاط واسع لتمويل الفنانات، لم يكن هناك شىء أكيد، لكنها كانت شائعات تتناثر هنا وهناك وأخبار قليلة كنت أجمعها فى شبابى وأنا أراقب ما أسميته وقتها خطة تدمير مصر.. ما علاقة فاطمة رشدى بكل هذا؟.. اصبر وسأقول لك.. كان فضيلة الشيخ الشعراوى داعية محبوبًا من كل المصريين، كانت كل مجموعة منهم تحب فيه الجزء الخاص بها.. الصوفيون يحبونه لأنه صوفى وصاحب كرامات، والسلفيون يحبونه لأن خطابه به ملمح سلفى محافظ، والأزهريون يحبونه لأنه نابغة من أبناء الأزهر، والمسئولون يحبونه لأنه يدعو للحفاظ على الاستقرار، والمواطنون يحبونه لأن لغته سهلة، والإسلاميون يحبونه لأنه يدعو لتطبيق الشريعة ويعادى العلمانية، وهكذا كان البعض يحب بعض أوجهه والبعض يحب أوجهًا أخرى، وكان من الأوجه التى لا يحبها البعض وأنا منهم نشاط الشيخ فى إقناع الفنانات بالاعتزال، لعب الشيخ الكبير الدور الرئيسى فى تحجيب الكثيرات ومساعدتهن بعد الاعتزال.. هذا الدور دفع الصحفى محمود فوزى لأن يسأله فى حوار طويل معه عن طريقته فى إقناع كل هذا العدد بالاعتزال.. فأجاب فضيلته بأنه لم يلجأ أبدًا معهن لسلاح الحلال والحرام.. لم يقل لأى واحدة منهن إن الفن حرام!! كيف أقنعهن إذن؟.. يقول الشيخ الشعراوى إنه كان يذكرهن بقصة فاطمة رشدى وبالبهدلة التى تعرضت لها فى نهاية حياتها.. يقول كنت أسألهن كيف رأيتن مصير فاطمة رشدى؟.. فيقلن الذين ساعدوها فى نهاية حياتها ليسوا هم الذين تمتعوا بجمالها!!! فأقول لكل واحدة «الحقى نفسك وتجنبى مصير فاطمة رشدى»!! وهكذا سار السيناريو والدافع الأساسى عند كل فنانة هو أن تؤمّن نفسها ماديًا وتتجنب مصير فاطمة رشدى وهنا ننتقل للمشهد الثالث. 

المشهد الثالث 

مصر بعد ٢٠١٤.. فى عصر استفاقة الدولة المصرية، لها رئيس يدرك معنى الأمن القومى المصرى، يعرف كل ما جرى وكيف جرى، يفهم معنى القوة الناعمة المصرية ويعرف أن الفن المصرى إحدى أدوات سيادة مصر فى إقليمها وعالمها، هذا الفهم تدركه مؤسسات الدولة المصرية وتترجمه لحقائق على أرض الواقع.. كل ما جرى فى الإعلام والفن كان ضروريًا رغم أى أخطاء فى التطبيق، بعضهم كان يرتدى ثيابًا مصرية وتحركه أيادٍ خارجية، بعضهم كان يدير قنواته لحساب من يدفع، بعضهم كان معنا وعلينا طوال الوقت.. كان لا بد من التنظيم وتحمل الآثار الجانبية، أدركت الدولة أن كرامة الفنان المصرى من كرامة مصر، لم يترك فنان مصرى حتى يعلن احتياجه، لم يترك فنان مصرى يعانى الفاقة، لم يُترك فنان مصرى ليتاجر البعض بأنه يساعده من هنا أو هناك.. حالات كثيرة جدًا بعضها غير معلن وبعضها معلن وآخرها اتصال الرئاسة بالجميل سمير صبرى وعلاجه على نفقة الدولة.. تحيا مصر إذن.. مصر التى تعرف قيمتها وتحفظ كرامتها وتصون أبناءها ويبر قويها بضعيفها تحيا مصر التى كانت وستعود بإذن الله.