رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

استيراد سداح مداح

فى عام ١٩٧٤ بدأت مصر تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادى، كان واضع هذه السياسات عالم اقتصاد كبيرًا هو الدكتور عبدالعزيز حجازى.. بعد شهور قليلة من التطبيق اتضح أن ما يحدث على الأرض شىء مختلف تمامًا عن المفهوم الصحيح للانفتاح الإنتاجى.. دفعت هذه الممارسات الصحفى الكبير أحمد بهاء الدين لأن يكتب مقالًا بعنوان «انفتاح سداح مداح» يرصد فيه الأخطاء التى وقعت فى تطبيق سياسة الانفتاح، اليوم أجد نفس المعنى يقفز إلى ذهنى بعد قرارات حوكمة الاستيراد التى أصدرتها الحكومة، والمعنى أن العيب ليس فى السياسة نفسها ولكن فى التطبيقات الفاسدة لها على الأرض، ردود الفعل الصادرة من كبار المستوردين تخلط بين مبدأ الاستيراد نفسه والفساد وعدم الانضباط فى ممارسات الاستيراد، حين طبقت مصر سياسات الانفتاح الاقتصادى كانت الفكرة أن نلغى القيود على استيراد المواد اللازمة للتصنيع، كانت الفكرة أن تتحول مصر لبلد صناعى وأن نستورد المواد التى تدخل فى الصناعات المختلفة ثم نعيد تصديرها فى صورة بضائع، كان الهدف النهائى هو أن تكون صادراتنا أكثر من وارداتنا، وأن تواصل مصر تحولها نحو الصناعة ولكن عن طريق الاقتصاد الحر.. التطبيق الخاطئ للسياسات قادنا لأن نتحول لبلد استهلاكى بامتياز، فتحنا الباب لاستيراد المياه الغازية والشيكولاتة والملابس والكماليات وكل سلع الرفاهية، بددنا أرصدتنا من العملة الصعبة ومدخرات العاملين فى الخارج فى كل ما هو استهلاكى، بدلًا من أن تتوجه مدخرات المصريين للتصنيع من خلال البورصة والشركات المساهمة والمصانع الصغيرة، بددنا ثرواتنا على بطوننا كما يقول التعبير الشعبى.. كنا نشترى ملابسنا وأحذيتنا فى الثمانينيات من مصانع مصرية فأصبحنا نشتريها من المولات، كنا نجلس فى كازينوهات مصرية على النيل فأصبحنا نجلس فى فروع لمقاهٍ أمريكية وإيطالية وفرنسية، أضعنا كل مدخراتنا على السيارات والتليفونات المحمولة وشاليهات الساحل والسخنة والبراندات الغربية فلم تعد لدينا مدخرات تكفى لإحداث التراكم الرأسمالى، نسب الادخار لدينا من أضعف النسب فى العالم لأننا رفعنا شعار الاستهلاك «أتحدث عن الشرائح القادرة وهى كبيرة لأن عدد السكان كبير».. لم يكن العيب فى سياسة الانفتاح إذن ولكن فى تطبيقها، أصبح حلم كل مصرى بعد الانفتاح أن يمتلك «بوتيك» لبيع البضائع المستوردة، وليس ورشة لتصنيع البضائع المصرية، وأصبح امتلاك شركة للاستيراد والتصدير هو حلم كل راغب فى الثراء وللأسف فإن الاستيراد كان هو الأساس وليس التصدير، بعد الطفرة الصناعية الصينية واصلنا رحلة الجنون، أصبح المستوردون يسافرون للصين للاتفاق على تصنيع بضائع بالغة الرداءة ورخيصة السعر دون اعتبار لأى مصلحة وطنية أو مواصفات للجودة، أصبحنا نستورد سجادة الصلاة، والسبحة، والإسدال، والجلباب الأبيض، وفانوس رمضان وهى كلها سلع ليس فيها أى تعقيد تكنولوجى يمنع تصنيعها لدينا، ما زلنا حتى الآن غير قادرين على تصنيع «الأستيكة» والقلم الرصاص، والأستك المطاط الذى توضع فيه النقود، تدهورت صناعة تجميع السيارات المصرية بدلًا من أن تتطور، وأغرقنا البلاد بملايين السيارات تحت شعار ثلاث سيارات لكل أسرة قادرة، استدان الناس ليحمل كثير منهم جهازى محمول أو ثلاثة، فى حين أن بعض الأوروبيين لا يستعمل المحمول حتى الآن ما دام نمط حياته لا يستدعى ذلك، تكونت شبكات مصالح عملاقة تعيش على الاستيراد وتحقق منه أرباحًا خرافية وترى أن من المصلحة ضرب أى صناعة وطنية، صناعتنا تعانى من مشاكل أهمها عدم القدرة على تقديم سعر منافس، وعدم الاهتمام بالبحث العلمى الذى هو أساس الصناعة الحديثة، لكننا بدلًا من معالجة المشاكل قتلنا الصناعة المصرية ووارينا جثتها التراب، وباستثناء مجالات محددة مثل الغزل والنسيج والبتروكيماويات، تم إخصاء الصناعة المصرية وإفقادها القدرة على المنافسة، والصناعات الناجحة تم بيعها فى التسعينيات وما بعدها، الصناعة فى مجتمع ما تعنى قيمًا كثيرة مثل احترام العمل، والتنظيم، والالتزام، والتفكير العلمى المنطقى، وهى كلها صفات يبدو أن هناك من كان يريد حرمان المصريين منها، عندما تغيب الصناعة يزيد عدد العاطلين والمجرمين والمتطرفين ويفقد الناس الإيمان بقيمة العمل كوسيلة للترقى الاجتماعى ومواصلة الحياة المستقرة، الصناعة هى وسيلتنا الوحيدة لزيادة مأمونة للناتج القومى وأن نصبح رقمًا فاعلًا فى المجتمع الدولى، اعتمدنا سنوات طويلة على الدخل الريعى من قناة السويس وتحويلات العاملين، والسياحة، وآن الأوان أن تتحول الصادرات لأحد روافد الدخل القومى المصرى بأكثر مما هى عليه بكثير.. لا أدعى أننى خبير مصرفى لأشرح الخطوة التى اتخذها البنك المركزى ولكننى أؤيد بشدة القضاء على فوضى الاستيراد، وترشيده، وقصره على المواد التى تدخل فى عملية الإنتاج، هذه هى الفكرة الرشيدة لأى استيراد وما عداها هو استنزاف لمواد شحيحة من العملة الصعبة، وكأن الشركات الكبرى تمنحنا هذه العملة بصعوبة عبر قناة السويس وتحويلات العاملين ثم تأخذها منا بسهولة حين نستورد ملايين الأطنان من كل شىء كل عام.. آن الأوان أن نصحح أخطاء الماضى وأن نسير فى طريق البناء والإنتاج لا أى طريق آخر، أما أصحاب المصالح فعليهم أن يفكروا فى مصلحة هذا الشعب الذى أعطاهم الكثير وأن يعيدوا استثمار أموالهم فى أنشطة تصنيعية وإنتاجية ليمارسوا التصدير بعد أن مارسوا الاستيراد سنوات طويلة وكلنا نعرف النتيجة.