رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فرق الحضارة

أعيش مع المصريين مشاعر الفرحة الغامرة بالفوز الثالث لمنتخبنا الوطنى فى طريقه نحو بطولة إفريقيا.. أسأل نفسى ما الفارق بين منتخبنا وغيره من المنتخبات الأخرى؟ هل هو اللياقة البدنية مثلًا؟ فى الحقيقة لا.. كل المنتخبات التى هزمناها لياقتها البدنية ممتازة، وبعضها يتفوق علينا فى هذه النقطة.. هل هى فنيات كرة القدم؟ فى الحقيقة لا أيضًا.. فجميع المنتخبات التى هزمناها يضم لاعبين ومدربين على أعلى مستوى من الكفاءة وإتقان مهارات اللعب.. هل لأن منتخبنا به لاعب عالمى هو الأهم فى العالم؟ فى الحقيقة لا أيضًا.. فكل المنتخبات تضم محترفين أكثر فى العدد من محترفى المنتخب المصرى حتى لو لم يكونوا فى أهمية صلاح.. فى الحقيقة أن الفارق بيننا وبين غيرنا هو فارق حضارى.. هذا الفارق فارق معنوى.. غير ملموس.. غير مجسد على الأرض.. لا توجد وحدة فى العالم لقياس الحضارة.. فهى لا تقاس بالكيلو.. ولا بالعدد.. ولا بالمليارات.. ولكنها تظهر فى لحظات التحدى.. تنبثق من داخل كل لاعب مصرى وكأنها قوة سحرية.. كل لاعب مهما بدا بسيطًا.. شابًا.. فى مقتبل العمر.. يهتف فى داخله صوت يقول له أنت مصرى.. أنت تستحق الأفضل.. أنت ابن حضارة عريقة.. هذا الصوت أو الهاتف الافتراضى هو الذى يحركه ويطلق قواه الخفية.. رغم أنه فى الغالب الأعم لم يقرأ كتابًا واحدًا عن الحضارة الفرعونية، ولا يعرف الكثير عن تفاصيلها.. لكنها تجرى فى دمائه، وتسكن جيناته، وتتحول لقوة دافعة عملاقة فى لحظات التحدى، والمواجهة.. اللحظات التى يشعر فيها أن كبرياءه كمصرى مهددة، أو أن هناك من يستهين به كمصرى، أو يقلل من شأنه، أو يستهدفه بالعداء، رغم أن طبيعته كمصرى هى حب السلام والاستكانة للدعة، ساعتها يتحول المصرى لمقاتل شرس، الفارق بين المصريين فى حرب أكتوبر وغيرها أن كرامتهم الجمعية أهينت، لذلك تربصوا لرد الإهانة، تظاهروا فى الجامعات لاستعجال موعد الحرب، وحين حاربوا انتصروا رغم فقر الإمكانات بينهم وبين عدو ينتمى لحضارة غربية أكثر تفوقًا.. شىء من هذا حدث أمس الأول وطوال المباريات الثلاث الماضية، انبثقت القوى السحرية، أو الطاقة التى يتحدث عنها فلاسفة الشرق القديم.. من أسرار مصر أيضًا أنها ولادة كما يقول أحمد فؤاد نجم، كان توقعنا أن يجىء النصر بقدم محمد صلاح، فجاء بيد أبوجبل، عالمى آخر من أسيوط، يلحق بالعالمى الطالع من نجريج، امنح المصرى فرصة، ضعه تحت الاختبار، ضعه فى نار التجربة وشاهد لمعان المعدن الأصيل وتوهجه تحت النار.. هذه هى الحضارة.. الحضارة ليست المعابد، ولا المسلات، ولا التماثيل.. إن كل هذه شواهد على الحضارة، أو أدلة تقول لك إنه كان هناك بشر مختلفون يستطيعون صنع أشياء لا يستطيع الآخرون فعلها.. الحضارة معنى وأسلوب حياة، وفى حالة منتخبنا فقد عبر عن نفسه بالإرادة الحديدية، وتحمل مشاق الجسد وتطويعه لتحقيق المعنى، فمنتخب مصر هو الوحيد فى البطولة الذى لعب ثلاث مباريات متتالية مدة كل منها مائة وعشرون دقيقة مصحوبة بضغط عصبى قوى ومع ذلك لم يتأثر أداؤه، يعبر المعنى عن نفسه فى انصهار «الكل فى واحد» كما كان توفيق الحكيم يحلم فى «عودة الروح»، ويعبر عن نفسه أيضًا فى أواصر الود والتراحم بين لاعبى المنتخب على أرضية الانتماء لمصر قبل أى شىء آخر.. إن هذه الحضارة نفسها ليست حقيقة مؤبدة.. بل هى جزء من نفس المصريين، لذلك هى تتغير مثلما تتغير النفس، تتراجع أحيانًا، وتتوارى أحيانًا، وتفقد إيمانها بنفسها أحيانًا.. لكنها سرعان ما تتوهج فى لحظة معينة، ووفق ظروف معينة، وهو المعنى الذى عبر عنه شاعر مصر عبدالرحمن الأبنودى قائلًا «ومصر عارفة.. وشايفة.. وبتصبر.. لكنها فى لحظة زمن تعبر.. وتسترد الاسم والعناوين».. لقد كانت إحدى مشكلات مصر الكبيرة أنها جغرافيًا سهل مفتوح.. أخضر.. أهلها مسالمون.. لا يجيدون القتل ولكن يجيدون الزراعة والبناء.. وأدت هذه الطبيعة المفتوحة إلى أن يجتاحها البدو الهكسوس.. وهم قبائل جائعة مثل الجراد.. حرفتهم القتل وقد أدى هذا لتراجع الحضارة المصرية بعض الوقت، لكنها سرعان ما استعادت نفسها مرة أخرى، وطردت الهكسوس مرة، والعابرين مرة، والعبرانيين مرة، وبقيت مصر هى مصر حضارة عريقة، تؤثر ولا تتأثر، وتستوعب الوافد إليها مهما بدا قويًا، أو مغرورًا بقوته، فمصر هى مصر.. فى الماضى والحاضر والمستقبل بإذن الله.