رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيرة الحرية والوداع الهادئ

ترك سيرة العالم، ودّعنا لنحس بلطمة الفراق.. وأى لطمة، عندما تحس روحك وجسدك ومكتبتك، كلها عُراة.

نجا «جابر عصفور»، كان يرى ما لا يرى من الحب والجمال، غاب، راحلًا بهدوء، دون لحظة وداع، فيجعلنا نمرر يدنا على يوم الجمعة ٣١ ديسمبر ٢٠٢١، فلا نحس البهجة. 

جابر عصفور، مظلة الكتاب، وحاوى الروح المبدعة، واحد من كبار النقاد الذين علمونا البحث فيما وراء حقيقة ما يكتب، قال لى ذات لقاء نادر فى قاهرة المعز، أم الدنيا: «فى أى نص، تتراكم الأسرار، فلا ترى إلا ما بان منه فقط».

علامتنا الراحل، كان وسيبقى علامتنا التى ترشدنا، تدلنا عن حيوية وحرية وكرامة العمل الثقافى، سواء فى مصر أو البلاد العربية والعالم، إذ كون رؤيته الجمالية الناقدة، تبنيه كينونته وهيبته، أستاذًا يتبع فكر الرواد، ويتجمل بالمحبة والنور، عاشقًا وباحثًا عن خفايا الثقافة العربية ومكانته فى تراث البشرية.

كان وزيرًا، عميق الجدل، وواسع الطيف ولأجل ذلك وضع ما استطاع من قوة وإدارة، وعمل لكى يضع لمصر نبض ثقافة وفنون وعلوم وحضارة الأمة، كل مناخات الإبداع عمليًا، فاجتهد يؤسس لتجارب جديدة وينهض بالثقافة والتنوير ويدافع عن حرية التعبير، ذلك أنه كان يدرك ماهية تلك السيرة العطرة بثقافتنا ورموزها ولكل من أسس فى الأدب والنقد وثقافة الحوار والفنون والترجمة والسيرة، وتلك الخصوصية الجدلية التى آمن بها لفتح مناخات التواصل مع العالم العربى والإسلامى، ومختلف الدول والحضارات. 

تدمع القلوب وتتنغص الأرواح، تفر دمعة ساخنة، فقد ارتقينا فى الحب والجمال، عندما نهلنا من الراحل جابر عصفور قوة الثقافة الجادة، وكان هو دليلنا إبان عمله النادر فى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، الذى أحسبه يمد فى العزاء والرثاء للعلامة الذى صنع التغيير، خمس عشرة سنة، زهو التنوير والرقى، وقدَّم خلالها ما يثير رؤى التغيير والتنمية الثقافية، وعزز الأبعاد الإنسانية للثقافة فى مصر وكل البلاد العربية والعالمية، ومن مكانة الثقافة الإسلامية.

جابر عصفور ارتقى بالمؤسسات، جعلها ساحة للتنوير، وصقلها لتأخذ مكانة «موئل الثقافة العربية»، واستطاع، نظريًا وعمليًا وعبر الفعاليات، خلق فرص للتشاركية والتواصل مع العالم، من خلال تعاون المجلس باعتباره مؤسسة ثقافية عربية مع عدد غير قليل من المؤسسات الثقافية العالمية، وبذلك عادت مصر من خلال المجلس الأعلى للثقافة وتحت قيادة الراحل جابر عصفور تفتح أبوابها لاستضافة أبرز مفكرى العالم ومثقفيه، حسب شهادة مختبر سرديات الدار البيضاء فى المغرب، ذلك أن نخبًا عالمية وعربية عززت قيمة المؤسسة الثقافية المصرية من أمثال مارتن برنال، وبيتر جران، وجوست سمايرز، وجاك دريدا، وآلان روب جرييه، وميشيل فيفيوركا، وموريس جودلييه، وميشيل بوتور، وأندريه ريمون، وروبرت يانج، وروجر ألن، وأمبرتو إيكو، وفيسوافا شمبورسكا، وبدرو مونتابث، وبرويز أمر على، وروى متحدة، وغيرهم.

لجابر عصفور دراية وتعمق نظرى، ما ترك له مساحات من وعى العمل والإبداع والجمال، فقد امتلك ذلك المد الجدلى، وحوارًا نابعًا من وعيه الثقافى، الحاد والعميق بكون العالم المعاصر قد أصبح بفعل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية الهائلة قرية كونية صغيرة تتفاعل فيها الثقافات واللغات والأديان، بما لا ينفى خصوصية كل ثقافة على حدة، وبما يؤسس فى الوقت نفسه لحوار ثقافات العالم وليس صراع الحضارات، وهى هنا رؤية عربية ارتقى بوصفها مختبر سرديات الدار البيضاء، ناهضًا بعين أمينة ما ترك الراحل من جدل ومؤلفات وصياغة لعالم التنوير، الذى جعله ينفتح على «المشروع القومى للترجمة»، المشروع الذى بدأ، بداية صغيرة لكنها كانت تمثل ضوءًا فى آخر النفق العربى المظلم وإرهاصًا بحلم عربى كبير آتٍ، كانت البداية فى عام ١٩٩٥ بآحاد قليلة من الكتب المترجمة التى بدأت تصدر كل عام، ولكن بعد عشر سنوات أصبح الحلم واقعًا، وبلغ ما صدر عن المشروع القومى للترجمة أكثر من ألف عنوان، محطِّمًا بذلك الرقم القياسى لأى مشروع آخر للترجمة فى تاريخ الثقافة العربية منذ عصر المأمون إلى يومنا هذا، فتلقفنا ترجمات نادرة مهمة نوعية عن قرابة ثلاثين لغة مختلفة من اللغات الحية، فضلًا عن بعض اللغات التى بطل استخدامها، أو غيرها من اللغات التى يُتَرجَم عنها مباشرة إلى العربية للمرة الأولى، وبذلك فقد كسر ذلك المشروع الحلم مركزية الثقافية الأوروبية فى الترجمة إلى العالم العربى، ونَقَلَ عن لغات آسيوية وإفريقية وأمريكية لاتينية إلى جانب هيمنة اللغات الأوروبية التقليدية، وأخيرًا كان اكتمال حلم الترجمة العربى بإنشاء المركز القومى للترجمة الذى تولَّى جابر عصفور إدارته، ليضيف إلى إنجازاته بؤرة ثقافية جديدة سوف تسهم دون شك فى تبديد ظلام الواقع العربى وتنتقل بالثقافة العربية من خصوصيتها الجغرافية الضيَّقة إلى فضاء العالمية الرحب. 

وعلاوة على ذلك، شكَّل دور جابر عصفور فى مجال النقد الأكاديمى والثقافى إسهامًا بارزًا فى مواجهة القوى الظلامية فى مجتمعاتنا العربية، وفى إعلاء قيم الاستنارة والتقدم التى آن لها أن تتضافر لمواجهة قيم الجمود والتخلف، لقد كان الشغل الشاغل والحلم الأكبر للكاتب والناقد والمفكِّر المصرى جابر عصفور هو تقديم الوجه الإيجابى لثقافة عربية معاصرة تنتقل بأبنائها، من المحيط إلى الخليج، من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية.

عندما تشهد، جامعة القاهرة، اليوم السبت، هيبة جنازة الراحل جابر عصفور، فإنها، ترتقى بمسيرة إنسان، حصل على الليسانس من قسم اللغة العربية بكلية الآداب- جامعة القاهرة، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، ١٩٦٥، وعلى درجة الماجستير من قسم اللغة العربية بكلية الآداب- جامعة القاهرة، بتقدير ممتاز فى ١٩٦٩، عن رسالة بعنوان «الصورة الفنية فى التراث النقدى والبلاغى».

ترك الراحل، علامات فى النقد واللغة والتراث والترجمة، كما بحث بشكل أساسى فى العديد من الدراسات التى تثير الحوار وتغير فى المفاهيم. 

لمن يعشق الوداع، ندعو إلى توديع جابر عصفور بالمد الصوفى الذى ينهل من مكتبته الأصيلة المتكاملة، التى تتشابك مع الفكر الحر، وتدافع عن الجمال والحضارة والسرديات العربية، مثلما مات تاركًا كل شىء، إلا أنه ارتقى إلى السماء مؤمنًا بحب مصر، وثقافة أهل مصر. 

أى غياب أقسى يا جابر!.. ترابك ندى، وروحك مسك.