رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى رحيله الحادية عشرة: إدريس على.. عصفور النوبة النبيل

ادريس علي
ادريس علي

إدريس علي روائي وقاص مصري، ولد في 5 أكتوبر 1940 بإحدى قرى النوبة القديمة بمحافظة أسوان، ولم تمكنه ظروف أسرته من تلقي قدرًا كافٍ من التعليم النظامي، لكنه كان عاشقا للقراءة، وقد بدأ الكتابة الإبداعية متأخرًا، وأنجز خلال مسيرته أعمالا قصصية مهمة؛ هي: "واحد ضد الجميع، المبعدون، وقائع غرق السفينة"، وروايات: "انفجار جمجمة، تحت خط الفقر، مشاهد من قلب الجحيم، الزعيم يحلق شعره"، فضلا عن رواياته "دنقلة، والنوبي، واللعب فوق جبال النوبة"، التي تناولت قضايا ومشكلات منطقة النوبة من منظور مغاير؛ بعيدًا عن سرديات الحنين التي دوَّنها عدد من الكتاب والفنانين عن "بلاد الدهب"، وبما يدحض سرديات إدعاء الاضهاد، ودعوات الانفصال التي تكسَّب منها البعض.

ودعنا إدريس علي في 30 نوفمبر 2010، ورغم مرور 11 عاما على وفاته ما يزال النظر في أعماله مفيدًا ومهمًا للوعي الوطني، في ظل ما يشهده العالم من ترويج للطائفية والإثنية كهويات محلية، وتوظيفها في تصدُّع الدول وتدميرها من الداخل.

 (1)

ربما أكون مثل كثيرين من الذين اقتربوا من الروائي الراحل إدريس على؛ أنظره فأرى واحداً ضد الجميع أو واحداً ضده الجميع. أرى الصحراء شاسعة وخالية وموحشة إلا من شجرة وحيدة يسكنها عصفور وحيد، وأسفلها إنسان غارق فى أسئلة وجودية؛ كلما ضربه سؤال ترك الظل متجهًا إلى الأفق البعيد، مكبلاً بسلاسل آماله كما عنترة بن شداد فى بحر رمال متحركة، وعند نقطة ما يتوقف حثيثًا متسمِّعاً وقع زقزقة، فيرتد متسارعًا؛ يغرس قدمه فى الرمل، والرمل جمر، بينما تتطامن القدم الأخرى على سطح الظل. ينتظر أسفل الشجرة مبدلاً موضع قدميه، وعندما يفارقه الصبر يُطلق أسئلته في البعيد البعيد؛ كلما وخزه أمل وقف وتصنت وارتد عائداً.. وهكذا مثل دون كيشوت؛ يحارب طواحين الهواء!. 

لم يكن إدريس علي ببعيد عن تلك الحالة؛ نعم هو يشعر أنه وحيد مثل العصفور الوحيد والشجرة الوحيدة، ولكن يقينه الأكبر التغلب علي ذلك وتجاوزه، لذلك لم يستسلم لثقافة يقينها العزلة والانغلاق والوحدة، بل سعى حثيثًا إلى تحريرها من ذلك اليقين، فجاء صوته الروائي مثل عصفورٍ، أنينه صوصوة؛ في ضعفها إيقاع استغاثة، وفي وقعها سيمفونية تحذير.

إدريس علي في زيارة لجزيرة صخرية في نيل أسوان

 وعلى طول الخط كان "إدريس" ذلك الإنسان الذي يسعى إلي تحرير المجتمع من سطوة التضاريس وقيودها البيئية المتعددة؛ سواء ما تفرضه الطبيعة أو ما تخلِّفه ظروفها المعقدة من رواسب العادات والتقاليد؛ رسَمَ ذلك في معظم أعماله، وربما تكون روايات "دنقلة، والنوبي، واللعب فوق جبال النوبة" ترجمات فنية تعبر عن رؤيته الكاملة في مسألة الهوية وإشكالياتها وتداعياتها، وقد اعتمد منطقة النوبة القديمة كتعيين مكاني ومعادل ثقافي لتناول ذلك.

(2)

كان عدد من المبدعين من تشكيليين وأدباء وصحفيين قد صوروا "النوبة" كعالم قائم بذاته؛ "عالم الحسن والمثالية"، وكأن أهلها يعيشيون في رغد وهناءة ورضا، بينما يشير الواقع إلى غير ذلك، حيث كانت قرى النوبة في حالة تآكل بفعل "الدميرة" وفورات الطبيعة؛ يكابد إنسانها عناء العزلة وانتظار ما لا يجيء، وقد شكَّلت سرديات "المدينة المسحورة" التي لا تشوبها شائبة، خطًا سار عليه معظم من صوروا عوالم النوبة، فجاءت كتابات بعضهم مصبوغة بالطابع الفلكلوري، وجانحة نحو "أسطرة" لا تعبر عن الواقع الإنسانى هناك، وبما يجعلنا ننظر إلى أهل النوبة وكأنهم "جماعة خيالية" ليس أكثر، وهو الأمر الذي رسّخ لاحقًا لـ"سرديات الحنين" وما استتبعها من نداءات "العودة لبلاد الدهب"، بل إن هناك من نادى كما عوض شلالي في رواية "دنقلة" بدولة نوبية مستقلة!. 

الأدباء فؤاد مرسي ويسري حسان ومحمد عبد الحافظ مع إدريس في إحدى المؤتمرات بأسوان

أما نحن الذين لم نشهد النوبة القديمة فقد صدقنا الأدبيات المثالية عنها، فرسخت فى وجداننا كـ"جنة الله فى الأرض" إلى أن ظهرت روايات انشغلت بقضايا ومشكلات أهل النوبة، واهتمت بعوالمها بعيدًا عن "الخيالات الغريبة" أو "الأفكار الدخيلة الخبيثة"، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما قدمه الروائي يحيى مختار في روايتيه "جُدكاب، وجبال الكحل"، وكذلك عدد من روايات إدريس علي؛ إذ لم تجرِّد "أهل النوبة" من إنسانيتهم؛ لم تجعلهم ملائكة أو "ناس أسطوريين" أو شياطين؛ بل صوّرتهم- كما ينبغى- بشرًا من لحم ودم، يعانون ويكابدون ويكافحون، ولم تغفل في شخصيتهم "الخير والشر" الثنائية الدرامية التى تصنع رواية الحياة. 

وفي هذا السياق جاءت شخصية "الثائر النوبي" عوض شلالي في روايته "دنقلة"؛ حيث يحلم "عوض" بالعودة إلى النوبة القديمة، وإقامة مملكة ذات هوية قائمة بذاتها؛ نستطيع القول إنها هوية (جماعة متخيلة)، لكنه يكتشف لاحقا أن ذلك ضرب من السذاجة ولي لذراع التاريخ، بما يعني أن الجغرافيا وحدها لا تمثل سوى هوية مكانية ثابتة، وبالتالي هي هوية مغلقة؛ لأنها تفتقر إلى عنصر الحراك والتفاعل مع الواقع، ثم يتكشف لنا تباعا أن شخصية عوض شلالي ليست لثائر حقيقي على سلطان التقاليد وعلى قسوة البيئة، بل لثائر هش؛ أناني بلا انتماء. 

رواية دنقلة

(3)

كشف إدريس علي في "دنقلة" المسكوت عنه في المجتمع المغلق، وحين صدرت الرواية في العام 1993 لاقت هجومًا ضاريًا من بعض أبناء النوبة؛ رغم أن كاتبها صدَّرها بما يفيد اعتزازه بكونه من أبناء النوبة؛ فقد أهداها إلى أهل الشمال بقوله: (إلى عاشق النوبة المتألق صلاح سليم، وأصدقائي وأحبائي أهل الشمال.. هذه كل أوراقي، فلا تمزقوها، وهذا صوتي فلا تسكتوه، وهذا أنا فلا ترجموني؛ لأني عشت بينكم وأكلت معكم وعشقت حضارتكم، وما زلت. إنما أنقل لكم وبصدق جارح بعض أوجاعي وأوجاع قومي). ويبدو أن من هاجموا الرواية لم يقرؤها أو لم يستوعبوا ما هدفت إليه، فقاموا بالتأليب ضد "إدريس" الذي تعرض لهجوم غريب من نوعه، بينما خصص لها آنذاك الناقد الكبير علي الراعي مقالته بجريدة الأهرام؛ أشار فيه إلى أن (الرواية تُحذِّر من عواقب التهميش والتفرقة بين المواطنين شمالا وجنوبا، وهو ما أطلق أشباح الإرهاب من مخابئها إفادة من أجيال متعاقبة من الحكام).

إدريس في شقته بالقاهرة 

لم يوقف الهجوم الضاري مسيرة إدريس علي الذي مضى في طريقه ليكتب بعد ذلك روايته "النوبى" ويواصل رحلة الكشف عن الواقع الاجتماعي والثقافي في "بلاد الدهب"؛ يعبر بلغة حية عن رؤيته التي لا تنطوى على تصور نظرى- أو نظرة فلكلورية- لكن عن خبرة حياتية؛ فقد جرَّب "إدريس" الحياة هناك في "المجتمع المغلق" بين الأهل والصحبة والطبيعة الغدَّارة القاسية، ولا يريد لأهل النوبة أن يظلمهم التاريخ مثلما عانوا من قسوة الجغرافيا؛ لذلك كان من المتحمسين للتهجير، وقد انشغلت رواية "النوبي" بإشكالية التهجير، فقدمت كيف كان الخروج من المجتمع "المغلق" ضرورة إنسانية ووطنية، وقد تناول إدريس علي ذلك من منظور غير مطروق. 

رواية النوبي

(4)

كان "التهجير" هو بؤرة "الصراع"، فقد جاءت المبادرة من خارج المجتمع؛ إذ أقرت الحكومة التهجير فتحمس له فريق بينما رفضه فريق آخر، كان الفريق الرافض هم "جيل الحنين والعاطفة" ويمثلهم الشيوخ؛ ممن ولدوا وعاشوا فى النوبة القديمة، وليس في ذاكرتهم بلادًا أجمل منها، فلم يعرفوا أرضًا سواها، ولذا يتشبثون بالمكان حتى لو كان المقابل هو استحالة الحياة وهلاك الإنسان هناك، أما الفريق المتحمس للتهجير فهم "جيل العقل"؛ من الذين ولدوا فى النوبة وعاشوا فيها طفولتهم وصباهم لكنهم تفاعلوا أيضًا مع مفردات الحضارة التى تقبع على بعد أميال منهم فى مدينة أسوان، وهؤلاء استجابوا للمبادرة، ودعوا الجميع إلى ركوب السفينة والتفاعل مع صوت الواقع، وتولوا مهمة إقناع الرافضين بضرورة الهجرة للتحرر من قسوة الجغرافيا والتخلص من قيودها.

ومن خلال صراع الفريقين صنع إدريس على دراميته ليكشف عن قسوة الطبيعة فى بلاد النوبة القديمة تلك القسوة التى تعكس معاناة الناس هناك، فكم من الأطفال والشيوخ والمرضى يموتون لعدم وجود طبيب مقيم، وكم صعبة هى مشقة السفر وعذابات الجهل وأمراض الفقر، ولهذا رحب جيل الوسط بالتهجير؛ إذ رأى أن الحل الأمثل للحفاظ على قيم الإنسان النوبي هو التحرر من جغرافيا تفقد مقوماتها تدريجيًّا؛ تضحي مع حصار الطبيعة لها بكل نفيس وغال، فتضربها العزلة، وإذ تنغلق المجتمعات علي نفسها يكون الاحتضار وشيكًا. 

مع يحيى مختار في ندوة بالنادي النوبي بالقاهرة

رأى "إدريس" أن التشبث بالنوبة القديمة معناه هلاك الناس هناك؛ فها هو صاحب العمر الطويل "كنود شكنده جُدكاب" يتشبث بصندوق زوجته الراحلة "كندارى" فينتهى تاريخه عقب تحطم الصندوق الذى انفرطت محتوياته وضاع، وهو ما يشير- أيضاً- إلى أن جزءًا من تاريخ النوبة انتهى تمامًا بسبب "فورات الجغرافيا" كما أن هناك جزءًا مفقودًا ربما نصل إليه لو عثرنا على الوثائق التى تحملها شخصية النوبى "كتبه تيما كوادى" السودانى الأصل الإنجليزى الجنسية الذى زار النوبة القديمة ليبحث عن تاريخه لكنها قتلته على يد نوبى متعصب من "الكُشاف". وكم أشعر أن "كتبه تيما كوادى" هو شخصية كونية تعكس جوهر شخصية إدريس على نفسه. 

رواية تحت خط الفقر

 (5)

في كتاباته لم يزايد إدريس علي بأحلام مستحيلة أو يسهم في صناعة يوتوبيا تفارق المنطق الاستراتيجي للنسق الثقافي المصري، ولعل ما تتابع من حوادث في ذلك السياق يؤكد كم كانت رؤيته آنذاك مستقبلية نافذة. وعلي ذلك لم تقع رواية "النوبى" في مزالق الايديولوجيا أو التنظير الخائب، فكما تحررت من تداعيات السرد لم تدعي امتلاك الحقيقة كاملة، بل تركت- بفنية مدهشة- أطراف خيوط تثير الجدل وتعكس في جانب منها تضحيات أهل النوبة من أجل الوطن، وتحث كذلك على البحث عن المفقود من تاريخ النوبة فى مصر لأسباب ليس لها علاقة بالإثنية التى تمثل منطلقًا لكتابات البعض.

وتبقى الإشارة إلى أن الرواية تحمل رؤية "كوزموبوليتانيه" تتسق مع شخصية إدريس علي؛ العصامي الذي نشأ فى أقصى الجنوب، وعمل في سنوات شبابه بالقوات المسلحة المصرية في سلاح حرس الحدود، وعايش عن قرب ثقافة المجتمعات المغلقة أو الثقافات الخاصة، وعاش ردحًا من حياته فى مدينة الإسكندرية التى استوعبت ثقافات متنوعة، ووقف على أن لكل ثقافة مهما كانت بسيطة منطقها الخاص، وينبغى احترامها، كما أن هناك قواسم مشتركة بين الثقافات الإنسانية المعاصرة، وأن "الإنسان- كما يقول مارك توين- هو الإنسان فى كل مكان".

ادريس علي

 

(6)

 خطورة سطوة الجغرافيا- التي سعى إدريس علي للتحذير منها-  ليس  في كونها تؤثر في نطاقها وحسب، إنما بانتقالها إلي أي نطاق آخر ترسو فيه أو تهفو إليه، وهو ما تناوله في رواية "اللعب فوق جبال النوبة" التي تعكس مسالب الثقافة المغلقة من خلال قصة أحد أبناء النوبة؛ سافر شابا إلي القاهرة هاربًا من العوز وساعيا إلي الرزق، ورغم أنه تزوج وأنجب واستقر تمامًا في المدينة الكبيرة إلا أنه ظل تحت تأثير تاريخه الاجتماعي بحلوه وومُرِّه؛ حيث العادات والتقاليد التي شكلتها تضاريس المكان هناك، فلم يترك لابنته غادة- المولودة في المدينة الكبيرة لأم قاهرية- أن تحيا وفق النسق الثقافي للمدنية التي تربت وتعيش فيها؛ تحب وتختار من ستتزوج به، فحكم علي تصرفاتها بمنطقه القبلي وقناعاته؛ "معندناش بنات تتجوز من بره؛ لازم يكون نوبي"، وعندما حاولت الدفاع عن اختيارها كانت رواسب الموروث الثقافي للأب- رغم ما اكتسبه في المدنية- هو الغالب؛ إذ دفع الأب بحبيب ابنته إلي السجن، بينما ألقي بها لسجن أكبر؛ الرحيل إلي النوبة لتزويجها حسب العادات والتقاليد هناك، وحيث المعاناة مضاعفة.

رواية اللعب فوق جبال النوبة

 هناك شعرت غادة بالوحدة، لكنها لم تستسلم، حاولت أن تهز تضاريس الثقافة المغلقة بأفعال حضرية بسيطة، وظلت تحاول تغيير إيقاع الحياة، اكتسبت حب البعض، وأثرت فيهم، لكن قيود الجغرافيا لم تسمح لها بمواصلة ذلك الإيقاع؛ فصارت وحيدة مثل عصفور وحيد في صحراء شاسعة وخالية وموحشة.. وفجأة اختفت لكن تأثيرها يظل باقيًا مثل صوصوة؛ في ضعفها إيقاع استغاثة، وفي وقعها سيمفونية تحذير.

 وهكذا أيضًا الروائي القدير إدريس علي الذي فارقنا في 30 نوفمبر 2010 وأعاود زيارته في ذكرى رحليه الحادية عشرة لأرسل إلى روحه السلام.