رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تجربة هشام قشطة

اعتقد كثيرون أن مجلة الكتابة الأخرى، ظهرت كرد فعل لمقال نشره شاعرنا الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى فى افتتاحية مجلة «إبداع» سنة ١٩٩١ مع العدد الأول من الإصدار الثانى تحت رئاسته «بعد تجربة عظيمة قدمها الدكتور عبدالقادر القط للثقافة المصرية»، والتى اعتبرت الصفوة هم من ينتجون الثقافة ولا وجود للحرافيش بعد الآن، ودارت معركة، كان للمجلة الوليدة الفضل فى اشتعالها، بسبب الغضب الذى كان يجتاح الحياة الثقافية بعد غزو العراق للكويت، ثم التضحية بالعراق كله لكى تستقر الدبابات الأمريكية فى المنطقة.

هشام قشطة غامر والتف حوله عدد غير قليل من الحرافيش والنخبة، وبدأوا فى صياغة خطاب مختلف عن الخطاب الرسمى المتعالى الذى يريد تثبيت المشهد لكى يغنم الذين يديرونه بالامتيازات التى تم توزيعها على من تبنوا وجهة نظر النظام فى إدارة أزمة حرب الخليج، والتى تسببت فيها حماقة صدام حسين.

فقدت قصيدة الرواد حرارتها وانصرف الجمهور عن روادها، لأنها لم تعد تلبى حاجته إلى الشعر، بعد سقوط اللغة القديمة ببلاغتها وأغراضها فى الاختبار الصعب، نجحت الكتابة الأخرى فى استيعاب التجارب الجديدة فى قصيدة النثر وفى الفن التشكيلى والنقد، وصنعت حالة تؤكد فرادة الثقافة المصرية غير الرسمية.

وكان لوجود عدد من الأسماء المحبة للتجربة دور عظيم فى بلورة رؤية المجلة، مثل بشير السباعى وعادل السيوى ومحمود قرنى وفتحى عبدالله وحسن خضر وغيرهم.

نجحت المجلة منذ عامها الأول فى الاهتمام بالتراث الطليعى فى الأدب المصرى، ولهذا السبب أبدت اهتمامًا بإحياء تراث السورياليين المصريين ممثلًا فى الإنتاج الأدبى لأعضاء جماعة الفن والحرية.

هذه الأيام تمر الذكرى الثلاثون لصدور العدد الأول، وهى مناسبة تستحق الحفاوة، ليس فقط بسبب دورها المهم فى التكريس لأسماء وتجارب أصبحت فيما بعد مؤثرة وفاعلة فى العمل الثقافى، ولكن أيضًا بسبب دأب وإصرار محررها هشام قشطة، الشاعر الذى جاء من المنصورة وصدر له ديوان «ذاكرة القروى» مطلع التسعينيات من القرن الماضى، ونجح فى تقديم تجربة فى الصحافة الثقافية بدون إمكانيات تذكر، يطبع المجلة ويوزعها بيديه.

ورغم توقف إصدارها بعد خمسة وعشرين عددًا، فإن تأثيرها والملفات التى قدمتها ما زال يتذكرها الجميع، نجح قشطة أيضًا فى مد جسور التواصل مع الأشقاء العرب وخصوصًا فى ليبيا وتونس، وانحاز إلى التجارب الطليعية فى البلدين، وإلى جانب المجلة قدم سلسلة للإبداع الجديد، وأعاد نشر المجلات التى لعبت دورًا عظيمًا فى الحياة الأدبية مثل مجلتى «التطور وجاليرى ٦٨».

الكتابة الأخرى فتحت شهية كثيرين لعمل تجارب مماثلة مستقلة مثل «أمكنة والجراد والفعل الشعرى»، ولكن طموح القائمين عليها «باستثناء أمكنة علاء خالد» كان ناقصًا، وكان بحثًا عن نفوذ ما، كتابة هشام الأخرى نجحت بسبب حالة الارتجال والعفوية والاحتفاء بالهامش الغنى بالمواهب والأحلام.

هُوجم المحرر العام كثيرًا، ولكنه نجح فى النهاية فى إظهار قوة مصر الثقافية من خلال مطبوعة متقشفة تحتفى بالحياة فى المقام الأول، ورد الاعتبار للتجارب الخلاقة فى تاريخنا الثقافى، بعد ثلاثين عامًا سنكتشف أن جيلى الثمانينيات والتسعينيات عبرا عن نفسيهما من خلال هذه المطبوعة، بعيدًا عن المؤسسة الرسمية التى خضعت لابتزاز المتشددين الإسلاميين الذين اعتبروا التفكير الحر والتجديد كفرًا.

هشام قشطة حتى لو اختلفت معه، فى النهاية نجح فى تحريك المياه الراكدة، لأنه دافع عن حق الاختلاف، وعن فكرة التنوع، وعن إمكانية إنجاز عمل مفيد ومؤثر بعيدًا عن السلطة وعن رجال الأعمال وعن التمويل الأجنبى، فقط مجموعة أصدقاء على المقهى يفكرون ويخططون وينجزون مشروعهم، ولا ينتظرون شيئًا من أحد، فقط إشاعة المناخ الإبداعى والتأكيد على ثراء الأدب الجديد فى مصر.