رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عملية إعادة إعمار القضية الفلسطينية

 

«إعادة الإعمار» هذا المصطلح الذى سيطالعنا كثيرًا، خلال الأيام المقبلة ارتباطًا بما جرى فى الأراضى الفلسطينية، وفى مدن وقرى «قطاع غزة» بالخصوص، سيحمل فى طياته أملًا، مما لا شك فيه للفلسطينيين، لكنه ما لبث بعد أيام محدودة من التوصل إلى اتفاقية وقف إطلاق النار، التى تكشف أنه يحمل أيضًا العديد من المفخخات القادرة وحدها دون تدخل المتربصين على الجانب الآخر، من إعادة المشهد لما هو أكثر مدعاة للقلق. هذا فى حال تسرب المكون الإيجابى، وهو حاضر حتى اللحظة، ولعل الجميع يجمعون على أن استعادة «القضية» على جدول الاهتمام الإقليمى والعالمى، تمثل وحدها خطوة انتصار، بالنظر إلى المشهد الغائم الذى ظل يلف استحقاقاتها لما يقارب عقدًا كاملًا.

يظل فعل «الاهتمام» أول المفخخات، الذى قد يعترض طريق إعمار القضية، إذا ظن أصحابها أن الإقليم والعالم من حولهم، قد يقبل أن يستنزف زمنيًا فى دوائر مفرغة من المواقف الملتبسة. هنا يبرز الميقات واستثمار الوقت بإيجابية، أحد أبرز ما تلزمه إعادة الإعمار، على الأقل لنفى التصور السائد أن الفلسطينيين لديهم رغبة طوال الوقت فى استثمار القضية، وليس استثمار الوقت أو التصورات المطروحة للحل. لذلك فالشخصيات والكيانات الفلسطينية ذات الاعتبار، بدءًا من حركة «فتح» التاريخية، وصولًا إلى أصغر فصيل فلسطينى قد يضم العشرات فحسب، فى احتياج حقيقى الآن وليس غدًا، إلى امتلاك إرادة القيام بتغييرات هيكلية وعقائدية أعمق بكثير مما تفكر فيه الآن كل المكونات الفلسطينية.

فما يجرى أمامهم اليوم يقارب إنتاج طبعة جديدة من القضية الفلسطينية، قد يكون التحرك المصرى خلال أحداث التصعيد والعدوان أسهم بشكل كبير فى تخليق هذه الطبعة، فبطبيعة الأداء المصرى أنه يبتعد عن مربع المزايدات والإشكاليات، ويضع تركيزه الكامل على الصورة الشاملة. لذلك كان العمل على إدانة ورفض الانتهاكات والتضييق فى القدس والضفة الغربية يسير جنبًا إلى جنب مع الإعلان عن بذل الجهد السريع فى احتواء الأضرار البشرية والمادية فى قطاع غزة، وهى محددات تستعيد وحدة المكون الفلسطينى وشراكة المصير الذى لا يمكن تجاوزه. 

على ضوء ذلك يصير التغيير المطلوب من الفصائل الفلسطينية الموجودة بقطاع غزة وحركة «حماس»، هو الأبرز هنا، ليس باعتبار سيطرتها على مدن القطاع، إنما بإصرارها طوال الوقت على ربط نفسها وجانب كبير من القضية الفلسطينية بلعبة المحاور فى الإقليم. فهناك قدم يمنى للحركة تقف به فى دائرة مشروع «الإسلام السياسى» ورعاته فى تركيا وقطر، وقدم يسرى تمتد لتدخل إلى ما يحلو أن يسمى نفسه «محور الممانعة»، الذى تديره إيران من طهران ومن دمشق وبيروت واليمن مشتملًا على أذرعها المسلحة.

تدرك «حماس»- فهو ليس خافيًا- أن قيادة هذين المحورين تركيا وإيران، يستخدمونها باعتبارها لا تمثل سوى ورقة من أوراقهم بالإقليم، والحديث هنا عن المرجعيات المشتركة فى تزييف وتدليس فاضح بحق قضية التحرر الوطنى الفلسطينى. محور الإسلام السياسى، ربما منذ بداية هذا العام وما بعد اتفاق «العلا»، بدا فى حالة من توفيق أوضاعه بهدوء مع الدول المهمة بالإقليم، ويحاول استعادة الحد المعقول من العلاقات الرشيدة فى تدرج محسوب، بحيث لا يبدو كانقلاب صريح على ما كان يقوم به طوال عقد كامل مضى، وهذا مفهوم ومقبول ويؤشر على أن هناك خريطة جديدة للمصالح قيد التشكل.

على الجانب الآخر تبدو إيران أبعد براجماتية فى إمساكها بورقة الفصائل من المحور التركى، فطهران ظلت تحتاج وبشدة إلى فصيل مسلح «سنى» تقوم بدعمه فى الإقليم، بغرض تخفيف حدة تطرفها وعنصريتها «المذهبية»، لذلك تظل الأحرص طوال الوقت على الصوت العالى والصورة «الزاعقة» لإثبات ارتباطها بالقضية الفلسطينية، وليس هناك أفضل من حركة «حماس» و«الجهاد» ممثلتين للسُّنة كى تساعداها فى تشكيل هذه الصورة.

القيود التى تكبل كلا المحورين وتقيد وتضبط تحركاتهما فى المضى أبعد مما يظل طوال الوقت محسوبًا بدقة- تخضع فى الحالة التركية لطبيعة العلاقات الوثيقة ما بين أنقرة وتل أبيب وتشابكاتها، ومع إيران، رغم أن المساحات تبدو أكبر بالنظر لتقاطع مشروعها مع المشروع الإسرائيلى فى أكثر من موضع لم يجر حسمه حتى الآن، إلا أنها تبدو الأسهل فى إلقاء ورقة فلسطين برمتها مما يشمل الفصائل وغيره فى حال نجحت فى إبرام صفقة مع الجانب الأمريكى لها طابع إلزامى يخص تمددها بالمنطقة. لذلك يلزم «حماس» أن تخضع نفسها اليوم إلى ما يشبه المراجعة، فالمجتمع الدولى يدرك تلك المعادلات بوضوح، مما كان سببًا منطقيًا لأن يكون المطروح اليوم أمريكيًا وبصراحة لافتة أن تظل التحركات القادمة فى إطار حرمان حماس من «حصد» أى مكاسب سياسية داخل البيت الفلسطينى كنتاج لتلك الجولة من التصعيد.

فمما قيل بالغرف المغلقة وعبر الخطوط الساخنة أن حالة التعاطف العربى والدولى التى تشكلت مؤخرًا مع الفلسطينيين تفرض ضرورة أن يظل الدعم المقدم لترميم الأضرار له طابع مزدوج، فمثلما ستجرى إعادة إعمار ما تهدم فى غزة، يجب وعلى نحو مساوٍ تمامًا أن يجرى ضخ مثله فى رام الله، من أجل ترميم التضرر الكبير الذى لحق بالسلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس. 

وعلى ضوء هذا الإطار العام الذى يتشكل حول مجمل التحركات المنتظرة، تدق أجراس إنذار عالية فى جنبات مبانى المقاطعة برام الله، فكما هو مطلوب من «حماس» أن تعود بمفاهيم وثوابت القضية إلى المرجعية الوطنية، والبعد عن خطيئة «تديين» الصراع الذى سيجد ترحيبًا إسرائيليًا طوال الوقت، على السلطة أن تفتح أبوابها وأفكارها للجميع دون استثناء، ومن المنطقى أن تكون هى الأخرى اليوم فى حالة مراجعة عميقة يتبعها الخروج بصيغة تفاعل جديدة تمامًا، مع الشارع الفلسطينى المتلهف للانضواء تحت صيغ وآليات تطورت بسرعة تبدل الأحداث، لا يجوز ولن يكون مقبولًا أن تبدو السلطة الفلسطينية وكأنها قادمة لتحصد ما هو ليس لها، بقدر ما هو مطلوب منها أن تخرج لشركاء الإقليم والمجتمع الدولى، تحمل وتعبّر عن «هموم» و«طموحات» كل الفلسطينيين دون استثناء، بحيث تكون قادرة على إدارة مسارات الصلابة والمرونة معًًًًا، بوجوه فلسطينية حاضرة وجديرة بالثقة فى الدّاخل والخارج.