رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عرابى وعبدالحميد الثانى


ربما ينظر البعض إلى هذا العنوان على أنه عنوان مثير؛ إذ كيف نضع عرابى فى ‏مقارنة مع عبدالحميد الثانى، فالأول هو مجرد قائد عسكرى فى جيش ولاية- أو خديوية- مصر ‏التابعة للدولة العثمانية وسلطانها هو عبدالحميد الثانى؟!

والحقيقة أن المقارنة أو المواجهة هنا مطلوبة ومهمة، إذ إنها مقارنة بين مفهوم القومية، ‏ويمثله هنا عرابى، والذى يُعد أحد أهم رموز الوطنية المصرية، ومفهوم الأممية الإسلامية، ‏ويمثلها هنا عبدالحميد الثانى بمشروعه الذى أطلق عليه «الجامعة الإسلامية»، أى وحدة العالم ‏الإسلامى، حتى البلاد التى لا تقع تحت السيادة العثمانية.‏

كان عرابى فى الأساس جنديًا فى الجيش المصرى، هذا الجيش الذى أنشأه محمد على وفقًا ‏للنظم الأوروبية الحديثة، بعد أن طبق قاعدة التجنيد الإجبارى على المصريين. ثم ترقى عرابى بعد ‏ذلك إلى رتب الضباط فى عهدَى سعيد وإسماعيل، وهنا لا بد من ذكر حكاية تاريخية تروى عن ‏محمد على؛ إذ طلب قائد الجيش إبراهيم باشا- وهو فى الوقت نفسه ابن محمد على- من أبيه ‏السماح بترقى الجنود المصريين إلى رتب الضباط، لكن محمد على رفض ذلك وقال لابنه إبراهيم ‏باشا: «إن أول مصرى يُرقى إلى رتب الضباط سيعمل على الانقلاب علينا أو على أسرتنا بعد ‏ذلك»، وكان محمد على يشير فى حقيقة الأمر إلى دور الجندية فى نمو الروح القومية.‏

وبالفعل ما أن سُمِحَ بترقى المصريين إلى رُتَب الضباط حتى بدأ نمو الوعى القومى ‏لديهم، وإحساسهم بالتناقض بينهم وبين كبار الضباط من الأتراك والشراكسة، وساعدت الدماء ‏التى سالت من الجند المصريين فى المعارك المختلفة على إحساسهم بأنفسهم، وبأن هذه الأرض ‏التى يعيشون عليها هى أرضهم هم لا أرض الأتراك، ومن هنا سيظهر شعار الثورة العرابية ‏‏«مصر للمصريين». وبدأ الجناح العسكرى متمثلًا فى عرابى ورفاقه من الضباط المصريين فى ‏الالتحام مع الجناح المدنى المصرى، وبدأت وقائع الثورة العرابية المعروفة للجميع، وأصدرت ‏الثورة أول دستور لمصر ينظم طبيعة العلاقات السياسية فى البلاد، بل وارتفعت أصوات تُطالب ‏بعزل الخديو توفيق نفسه، وكانت مصر على موعد مع بزوغ شمس القومية المصرية.‏

واعتبرت الدول الأوروبية هذا الأمر تهديدًا لمصالحها فى مصر لا سيما قناة السويس، ‏وبدأت الأساطيل الأوروبية فى التحرك نحو الإسكندرية. وهنا طلب عرابى من السلطان عبدالحميد الثانى إرسال تعزيزات من الجيش العثمانى لتساند الجيش المصرى فى الوقوف فى وجه ‏الأسطول الإنجليزى، لكن عبدالحميد الثانى رفض ذلك، إذ كان ينظر إلى ثورة عرابى على أنها ‏ثورة قومية تتعارض مع مفهوم الجامعة الإسلامية الذى يُروج له، وأن انتصار عرابى ربما يثير ‏حماسة القوميات الأخرى فى الولايات العثمانية، ومن ناحية أخرى كان عبدالحميد لا يريد إثارة ‏بريطانيا.‏

الأكثر من ذلك أن بريطانيا طلبت من عبدالحميد بصفته السلطان العثمانى وخليفة ‏المسلمين، إعلان عصيان عرابى حتى يتم سحب بساط الشرعية منه، ولم يتردد عبدالحميد فى ‏فعل ذلك، متذرعًا بأن عرابى لم يسمع نصيحته بالهدوء وتسليم سلاحه.‏

وترتبت على ذلك هزيمة عرابى ودخول الإنجليز إلى مصر فى عام ١٨٨٢، واستمرار ‏الاحتلال حتى عقد اتفاقية الجلاء عام ١٩٥٤.‏

إن قصة عرابى وعبدالحميد الثانى هى قصة الصراع بين القومية والأممية ‏الإسلامية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر.‏