رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مريم المصرية.. رؤية أخرى للسيدة العذراء» 5

محمد الباز يكتب: طلى علينا يا بتول

جريدة الدستور



لم أتخيل أبدًا أن يكون تجلى السيدة العذراء مرتبطًا بشخص طائفى مثل الدكتور محمد عمارة.
على هامش تجلى العذراء فى كنيستها بالوراق فى العام 2009 كنا نعانى من طرح رجعى للدكتور "عمارة"، الذى كان ولا يزال واحدا ممن يعتمد الأزهر عليهم، رغم أنه ليس أزهريا- هو عضو فى هيئة كبار العلماء وأحد المسئولين عن تحرير مجلة "الأزهر"، التى تصدر عن مجمع البحوث- هاجم المسيحيين بضراوة، افترى على كتابهم، وشوه صورتهم، وحرض عليهم.
قال "عمارة" إن كتاب المسيحيين محرَّف، كما أنهم مشركون بالجملة.
لاقى هجوم محمد عمارة على المسيحيين هجومًا مضادًا.
وجد كتابه الذى أطلق ليه "تقرير علمى"، رغم أنه لا علاقة له بالعلم على الإطلاق غضبًا من قطاعات المجتمع المصرى كلها، وهو ما دفع شيخ الأزهر، وقتها، الدكتور محمد سيد طنطاوى إلى سحب الكتاب من الأسواق- كان الكتاب قد صدر هدية مع مجلة الأزهر- وزاد على ذلك فى بيان صحفى أن مؤسسة الأزهر تؤكد احترامها الكامل لمعتقدات المسيحيين، وأنه لما قد يكون فهم من فحوى الكتاب من إساءة لمشاعرهم، فقد تقرر سحب الكتاب ومنعه من التداول فى الأسواق.
لم يلتفت أحد لما قاله محمد عمارة فى بداية الأزمة.
حاول الدفاع عن نفسه، فوصف المعترضين على كتابه بأنهم إما جهلاء أو يريدون الاستقواء بالهيمنة الأمريكية ويسعون لإثارة الفتنة، فالعبارة التى وردت فى كتابه ليست له وإنما لحجة الإسلام أبو حامد الغزالى فى كتابه "التفرقة بين الإسلام والزندقة"، وفيها يعرف الكفر والإيمان، بأن الكفر هو تكذيب الرسول فى شىء جاء به، والإيمان هو تصديقه فى جميع ما جاء به. 
كان محمد عمارة مترنحًا تمامًا، فقد تراجع عن كلامه هذا بعد أن اشتدت الهجمة عليه.
أغلب الظن أنه لم يتراجع قناعة بخطأ وانحراف ما قاله.
ولكن لأنه وجد الهجمة شرسة، والمؤسسة التى أصدرت الكتاب تتخلى عنه، فاعتصم بفقه التقية، حيث يعلن ما لا يخفيه، وهو كثير وشرير وخبيث.
كان هجوم "عمارة" مستفزًا ومخجلاً.
ولذلك لم أستهجن كثيرًا ما قاله ربُ أسرة مسيحى بدا عليه الإرهاق والتعب وهو ينتظر تجلى العذراء على كنيسة الوراق، فقد كان يفرج عن مخزون الغضب الكامن بداخله.
قال نصًا: إن ظهور العذراء يأتى ردًا على الدكتور محمد عمارة، الذى يتهم الإنجيل بأنه محرَّف، فظهورها يكذبه ويجعل ما يقوله ليس إلا نوعًا من الأوهام، والآن فماذا يقول فى هذه المعجزة المؤكدة؟
لقد وحد ظهور السيدة العذراء الأجساد المتعبة التى أنهكتها الأيام القاسية، لكنه لم يوحد القلوب المتنافرة والعقول المتناقضة التى تدعمها الأفكار الغامضة والمريبة، وإذا قلت إنها أفكار متطرفة ومتعصبة فسأقرك على ذلك تمامًا.
لكننى سألت نفسى سؤالاً على هامش ما يجرى أمامى.
إذا كان البعض يرى أنها جاءت لترفع المعاناة عن ظهور الأهالى الذين تتعبهم آلام الفتنة الطائفية، فهل معنى ذلك أن الأحداث الطائفية ستنتهى؟ 
أعتقد أن شيئًا من ذلك لا يمكن أن يحدث.
فالنار تحت الرماد. 
وظهور العذراء وحده ليس كافيًا لأن ينهى التوتر الطائفى الذى تعيش مصر به وعليه وقتها، رغم كل ما يقال عن وحدة النسيج، والتلاحم الوطنى الذى لا يمكن أن يفصمه شىء. 
لقد قال البابا شنودة إن مريم العذراء تجلت خمس مرات فى مصر فى الخمسين سنة الأخيرة.
كان أعظمها تجلى الزيتون فى العام 1968، ويجزم من يعتقدون فى ظهور العذراء أنها تأتى فى أوقات الأزمات التى يمر بها المصريون. 
جاءت بعد هزيمة 67، وجاءت أكثر من مرة فى عهد الرئيس السابق مبارك، لما شهده من أزمات طاحنة أهلكت الحرث والنسل، وهو تفسير شعبوى متعصب، فهى تظهر للمصريين فقط، والبابا يفسر ذلك بأنها تحب مصر وتحن إليها؛ لأنها زارتها مع المسيح عليه السلام هاربة به ممن أرادوا قتله. 
الأنبا بيشوى الذى مات وهو مطران دمياط وكفر الشيخ، وكان يُعرف بأنه الرجل الحديدى فى الكنيسة، وحامى حمى الإيمان الأرثوذكسى، وربما تأكيدًا على هذه الشعبوية، ذهب وهو يلقى كلمة فى احتفال أقيم بمناسبة مرور خمسين عامًا على تجلى العذراء فى الزيتون بأن ظهور العذراء فى كنائس الأرثوذكس فقط دون غيرها دليل على أن الأرثوذكس على حق والكنائس الأخرى على الباطل.
هذه فى النهاية رؤى ووجهات نظر تخص أصحابها، وقد يكون من الصعب أن نلزم أنفسنا بها.
لكن هذا لا يمنعنا من أن نسأل: فإذا كانت العذراء تظهر لمن يحتاجون إليها.. فلماذا لم تظهر لأهالى فلسطين، وهم فى أشد الحاجة لها؟
وإذا كانت تظهر فى الأرض التى تحبها، فلماذا لم تظهر فى أرض فلسطين على سبيل المثال؟
وهل هى تحب مصر أكثر من فلسطين التى ولدت وماتت فيها، والتى صلب فيها ابنها طبقًا للعقيدة المسيحية ورفع منها إلى السماء طبقًا للعقيدة الإسلامية؟
ثم لماذا لم تظهر فى عصر الرئيس السادات، وهو العصر الذى شهد أكبر صدام سياسى بين الرئيس والبابا شنودة؟
أم أنها كانت غاضبة من الرئيس السادات؟
لقد قيل إنها ظهرت بعد نكسة 67؛ لأنها أرادت أن تقف إلى جوار الرئيس عبدالناصر لمواقفه من الأقباط ولعلاقته الجيدة مع البابا كيرلس، وهو أمر مرفوض، فإذا كانت تظهر فى عهد رئيس يراعى الأقباط من أولادها، فلماذا ظهرت فى عصر الرئيس السابق مبارك، وهو بكل الأحوال لم يكن عصرًا سعيدًا على الأقباط؟ 
المنطق يقول، تأسيسًا على هذه القاعدة، إنها إذا كانت ظهرت لعبدالناصر لتخفف عنه آثار الهزيمة، فكان من الطبيعى ألا تظهر فى عصر مبارك الذى لاقى المسيحيون فيه عنتًا كبيرًا، على الأقل لتصل رسالتها إليه، وهى أنه ليست راضية عنه.
وتأسيسًا على هذه القاعدة أيضًا، لا بد أن نسأل: لماذا لم تظهر السيدة العذراء فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى، وهو الذى وضع المسيحيين فى عينيه، وزارهم فى أعيادهم وتحدث من الكنيسة، بل بنى لهم أكبر كاتدرائية فى الشرق الأوسط، تلك الكاتدرائية التى تتلألأ أضواؤها فى سماء العاصمة الإدارية الجديدة.
ليس من شأنى أن أقتحم الخلاف اللاهوتى حول ظهور العذراء من عدمه.
ولن أكون حزينًا أو غاضبًا إذا ثبت أن العذراء ظهرت وتجلت، ولكننى أنظر إلى حالة الاستخدام العامة لمثل هذا الظهور، وهو استخدام يحتاج إلى مزيد من التأمل والتروى فى الحكم عليه.
إن جموع المنتظرين مريم العذراء لم ينزلوها المنزلة التى تستحقها، ولم يتعاملوا معها بما يليق بها، وهو ما بدا واضحًا من خلال نوعية الهتافات التى رددوها مثلاً أمام كنيستها فى الوراق مثل:
"بص شوف العدرا بتعمل إيه".
و"الست العدرا منورة".
و"العمود منور ليه عشان العدرا واقفة عليه".
و"يالا اظهرى يالا... طلى بنورك يالا".
كلها تعبيرات سطحية وتصلح لتشجيع فريق كرة قدم يخوض منافسة شرسة وسط جمهور صاخب، لكنها أبدًا لا تليق بقداسة وعظمة ومكان ومكانة السيدة العذراء. 
فجماهير بهذا القدر ربما من السطحية أو الطيبة، لا أدرى، أعتقد أن العذراء مريم لن تكون حريصة أبدًا على أن تتجلى لهم، خاصة أنهم نفعيون ذهبوا إليها وكل منهم يحمل همومه الصغيرة ويطمع فى أن تخلصه السيدة مريم منها، وهو ما يعكس منتهى العجز وقلة الحيلة عند من وقفوا فى انتظار من يعتقدون أنه يأتى.. رغم أنه فى الواقع لا يأتى أبدًا.
لقد قيل إن ظهور العذراء في أوقات كثيرة يكون لأهداف سياسية، ومن يقفون وراء هذا التفسير ويدعمونه يؤكدون أن هناك نوعًا من التنسيق الأمنى فى إخراج مسرحية الظهور بهذه الطريقة لإلهاء الملايين التى تتابع الحدث وتشاهده عن القضايا الكبرى التى تعتصر مصر.
وهناك من يريد أن يغطى على كل المشكلات والأزمات التى تعصر الناس وتعتصرهم بحكاية أسطورية، يعرف من صنعها أنها ستكون قادرة على جذب المصريين جميعًا إليها، وعندما تأتى الخرافة فلا مكان ولا قيمة لأى عقل.
التسليم بهذا االتفسير فيه إفراط فى الاستسهال.
لكن ما معنى إحالة أحد الكهنة فى الكنيسة الأرثوذكسية إلى التحقيق الداخلى، ذات مرة؛ لأنه أعلن بجرأة أن العذراء لم تتجل، إن هناك حالة من التغييب يتم استخدام رجال الدين فيها، وهم لا يعترضون على هذا الأمر، حتى لو كانوا خلاله أداة طيعة فى يد من يريد، ومن يريدون كثيرون، وهم بالنسبة للكنيسة من توابع ولى الأمر الذى لا بد أن تطيعه وتسمع لما يقوله ربما دون نقاش. 
لكننى مع ذلك لا أستطيع أن أتعالى على من يقولون إن السيدة مريم تتجلى، تستجيب لمن يهتفون لها: طلى علينا يا بتول، فهؤلاء يجزمون بأنهم رأوها رأى العين.
ومن هنا تأتى الحيرة التى أعتقد أنها لن تتبدد أبدا.