رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحلة العذاب


أسافر كل يوم تقريبا من مدينة نصر إلى مقر لجنة الخمسين للتعديلات الدستورية، فى مقر مجلس الشورى بشارع قصر العينى. قلت أسافر، لأنها وقت سفر رغم قصر المسافة التى يجب أن تستغرق نصف ساعة أو أقل، وخصوصا أيام العطلات والاجازات وصحوة المرور.

تستغرق تلك الرحلة أيام العمل فى الغالب من ساعة ونصف الساعة إلى ساعتين أو أكثر. ورغم ذلك فإننى أشكر الله تعالى، أننى أركب سيارة، وأستطيع قيادتها بنفسى، وأرى الناس على الجانبين من الطريق يبتسمون ويتحدثون ويتندرون فى الزحمة، رغم صعوبة المرور، لاسباب عديدة. أحمد الله تعالى، أننى أجد ماءً نظيفاً ولو بالشراء، لأن نتيجة التحليل للماء فى المنطقة السكنية التى أقطن فيها، أظهر تلوثاً، ووجود مواد وشوائب تسبب بعض الأمراض نتيجة الشرب المستمر من هذه المياه. أحمد الله تعالى، وأنا أمر فى تلك الرحلة اليومية، بمنشأة ناصر وسكان المقابر مستهدفاً المرور من نفق الأزهر، وأدعو للموتى أن يرحمهم الله تعالى وأن يدخلهم جنات النعيم، ويشمل الدعاء بكل تأكيد سكان المقابر الأحياء، أن يمن الله عليهم بدستور جديد، وبنظام وبإدارة، تخرجهم من مضايقة الموتى فى قبورهم، وتأخذ بيدهم وبيد أبنائهم إلى التعليم أو حتى محو الأمية. وسط كل ذلك، أرانى حزنت كثيراً لأن أزمة البوتاجاز قد عادت إلى الظهور فى عدة أماكن، مما تسبب فى محاصرة مبنى محافظة المنوفية يوم الأربعاء الماضى 6/11/2013، وحدثت بعض الاشتباكات بالاسلحة البيضاء والعصى وقطع الطرق - كما جاء فى بعض الصحف - حيث ارتفع سعر الاسطوانة فى السوق السوداء إلى خمسين جنيها، وهو مبلغ كبير جدا بالنسبة للفقراء والفلاحين والعمال. وطبعا هذا المبلغ يمثل سداً أمام العاطلين عن العمل بشكل خاص. ويصبح كل أملهم فى الحياة الحصول على أنبوبة بوتاجاز.

عادت الأزمة إلى الظهور مرة أخرى ونحن على أبواب فصل الشتاء. أما التحديات القديمة فقد ظلت كما هى إلا قليلاً. لم تتحسن العشوائيات ومنها دار السلام، ومنها منشية ناصر، ولم يتناقص عدد الذين يأكلون من الزبالة، ولا الذين يعيشون فى المقابر، ولا حتى عدد الراغبين فى الزواج لارتفاع أسعاره وتكاليفه، رغم العنوسة. لم تقتصر أزمة اسطوانات البوتاجاز على المنوفية فقط، ولكنها امتدت لتشمل الشرقية والمنيا وكفر الشيخ والقليوبية ودمياط وغيرها من المناطق. ربما كانت الأزمة بسبب تهريب الاسطوانات إلى الأماكن النائية، حيث يصل سعرها إلى ثمانين جنيها، رغم محاولات الأجهزة المختصة ضبط المهربين وتجار السوق السوداء. وكم حزنت وأنا أقرأ خبراً فى صفحة الحوادث بجريدة «الأهرام» يوم الثلاثاء 12/11/2013. الخبر يتحدث عن إصابة خمسة أشخاص بالرصاص فى مشاجرة أمام مستودع بوتاجاز فى الإسكندرية. قد يتكرر هذا المنظر المؤسف مرات أخرى وبأشكال أكثر عنفا إذا لم تستطع الحكومة توفير هذا المستلزم الحيوى للمواطنين. أما كارثة التفكير التكفيرى وما يؤدى إليه، فهى جزء من رحلة العذاب التى عانى منها الشعب المصرى كله طول الوقت. هذا هو عادل محمد ابراهيم الشهير بحبارة، الذى هرب من سجن النطرون بعد الثورة الأولى فى يناير 2011، وذهب إلى سيناء بعد العفو عنه، وهو متهم ويحاكم حاليا بقتل الجنود فى سيناء، نقلت عنه الصحف مؤخراً بعض أقوال شاذة منها: أنه يجب محاربة الجيش والشرطة والنصارى لأنهم من الكافرين. ومبارك كان كافراً لكن أفضل من مرسى، الذى يدعى الإسلام كذباً». وأضاف حبارة التكفيرى فى التحقيقات التى تنشرها «المصرى اليوم» وصحف أخرى، أنه تعلم الكثير من الدين الإسلامى من محاضرات الشيخ محمد حسان بمجمع التوحيد بالمنصورة.

ونقلت الصحف أيضا قوله «لا أستنكر قتل الجنود فى رفح لأنهم جند الطاغوت، وواجب قتلهم على كل ذى قدرة وشوكة، وكما يقتلون ويحاربون شرع الله يجب أن يقتلوا، وهذا حكم جميع العلماء فى الطاغوت وجنود الطاغوت، فهم كافرون، ويتعين قتلهم. ولكنى لم أشرف بذلك». ولنا عودة لمناقشه هذا الفكر الشاذ مرة أخرى بمشيئته تعالى، لعلنا نخرج من هذه المعاناة الحرجة. ولكننى فقط أقول، هؤلاء ينفثون سمومهم القاتلة، ويأخذها بعض السذج على أنها فتاوى فرض عين ومن لا يفعلها يكون آثما، ما أسهل التضليل باسم الدين. وما أكثر المتفيهقين هذه الأيام الذين يفتون بغير علم أو يفتون بالهوى، ويستغلون حب المسلمين للجهاد فيرفعون شعاره دون أن يفقهوا الواقع ولا البيئة التى يفتون فى ضوئها، ويعلقون الآمال على إقامة دولة الإسلام بالحرب مهما كانت تكاليفها، ومهما كانت أدواتها والأسلحة فيها مستوردة، فتكون الكوارث أكثر، وتكون المضار والأخطار أكثر من المنافع ويظل حلم إقامة دولة السلام قائما.