رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هيكل وهدايت.. ضهر الأستاذ

جريدة الدستور


«لا أحد يستطيع أن يأخذ هيكل من هيكل إلا هيكل نفسه.. لكن هدايت استطاعت»
إنها المرأة التى دخلت حياته فى العام ١٩٥٤، وظلت رفيقة دربه حتى الآن.. تتابعه بنظراتها- وهى معه فى أى مكان يتوجد فيه- التى يفهمها الأستاذ جيدًا.. فقد أدرك سحر النظرة التى أخذته فى أول لقاء بينهما فى مكتبه بدار «أخبار اليوم».كانت هدايت تيمور ابنة عائلة صديقة لهيكل، عائلة لا تهتم بالسياسة، والدتها لم تكن تحب عبدالناصر، فهى ابنة العائلة الثرية التى أضيرت بقوانين الإصلاح الزراعى، لكن ذلك لم يعطل كثيرًا مشوار الحب الذى بدأ فى لحظة واحدة بين نجم الصحافة الصاعد وقتها، وفتاة كانت تهب كل وقتها للعمل التطوعى.

دخلت هدايت مكتب هيكل فى «أخبار اليوم» فانقلبت حياته تمامًا، لم يكن يفكر فى الزواج، فبدأ التفكير بجدية، أعرض كثيرًا عن كثيرات أردن أن يكن له زوجات، وأقبل بكله على هدايت وحدها، ربما دون أن يسأل نفسه لماذا؟
كانت هدايت قد ذهبت لـ«أخبار اليوم» للقيام بحملة لجمع التبرعات لجمعية «النور والأمل» التى ترعى المكفوفين، أرادت من هيكل أن يساعدها، فقدم لها دعمًا لم تكن تتخيله، كتب واتصل بكثيرين ممن يعرفهم يحثهم على التبرع.. بل أقنع عبدالناصر بالتبرع بخمسة جنيهات وإرسال خطاب موقع منه إليها يشيد بجهودها فى عمل الخير، وهو ما شجع على فتح باب التبرعات لجمعيتها.
ولأن «الصب تفضحه عيونه».. كشف هيكل عن حبه هدايت فى افتتاحية مجلة «آخر ساعة» التى كتبها فى ٢٧ أكتوبر ١٩٥٤، كتب «الدنيا ما زالت دنيا، والناس ناسًا، والخير يعم كل الأرجاء، الدنيا ما زالت دنيا ولم تصبح غابة موحشة والناس لم يتحولوا- معظمهم على الأقل- إلى وحوش بحر هائجة تبتلع فى جوفها المظلم كل ما يقابلها على الموج العاصف، والشر لم ينطلق حرًا طليقًا من كل قيد يتخذ من الجماجم كئوسًا يحتسى منها خمور الخطيئة، الدنيا بخير.. أقولها بعد تجربة عشتها بعقلى وقلبى وأعصابى».
كان هيكل صادقًا كل الصدق، فقد أحب هدايت بعقله وقلبه وأعصابه فعلًا، وهى الحالة التى ظل يعيشها كل هذه السنوات، ولو تصادف وحضرت لقاء من اللقاءات الكثيرة التى تكون فيها هدايت تيمور إلى جوار هيكل، ستشعر بمدى الدفء الذى يحيط بهما.
تمتلك هدايت تيمور ابتسامة خاصة بها، تغمر من أمامها بالمجاملة، لكن النظرة لا تخلو من خجل فطرى، وهى هادئة إلا عندما يتعلق الأمر بزوجها، الذى فى النهاية بالنسبة لها «محمد».. تناديه باسمه الأول دائمًا، وهى علامة محبة مطلقة، فلم يسبق لها أن نادته بـ«هيكل».. فهيكل الكاتب والصحفى والأستاذ ملك للجميع.. أما «محمد» فهو ملك لها وحدها.
تزوج هيكل من هدايت بعد شهور قليلة من لقائهما فى «أخبار اليوم».. لتقرر من اللحظة الأولى أن تكون زوجة وأمًا وعضو مجلس جمعية خيرية فقط، وحتى عندما عملت فى السلك الجامعى وأكملت دراساتها العليا، فحصلت على الماجستير عن «العمارة العثمانية فى مصر»، ولما وجدت أنها غارقة فى مادة الدكتوراه التى كانت تعدها عن «تاريخ وخطط بولاق».. فما جمعته يصلح لعشرين دكتوراه، توقفت لتستعيد نفسها وتسترد مهمتها التى وهبت نفسها لها.
استقالت هدايت من الجامعة بعد أن اقتنعت تمامًا بأنها لن تستطيع الوفاء بواجباتها الجامعية والعائلية والاجتماعية.. هذا غير اهتماماتها الثقافية.. فقد عملت على أن تكون عند أطراف أصابع زوجها ليس فيما يشغله فى شأنه الخاص، بل فى كل ما يحيط به.. فلم تكن هدايت شريكة بيت لهيكل، بل كانت شريكة حياة وأزمات وانتصارات وانكسارات.
أعتقد أن الأزمة الكبرى التى واجهتها هدايت تيمور كانت عندما دخل هيكل السجن، ضمن اعتقالات السادات فى سبتمبر ٨١، وقتها لم يكن زوجها هو الذى سجن، بل كان عمرها كله يعيش فى زنزانة، إنها تعرف جيدًا يوميات زوجها وأسلوب حياته، احتياجاته ونظامه المتناهى، فكيف له أن يعيش فى ظلمة زنزانة موحشة؟.
تغلبت هدايت على نفسها وإلى جوار احتياجاته اليومية التى كانت ترسلها له، كانت تضع وردة حمراء، فى رسالة واضحة إلى أن حبها له يولد كل يوم.
كانت هدايت تعرف أن زوجها لن يظل طويلًا فى سجنه، صحيح أن والدته السيدة هانم- التى توفيت فى بداية التسعينيات- أسرّت لأحفادها أن أباهم لن يظل طويلًا فى السجن، نبأتها رؤيا صادقة بذلك، لكن هدايت كان لديها يقينها الخاص، فهو لن يغيب عنها طويلًا، لأنه تعود ألا يغيب.
يعتقد البعض أن السيدة هدايت تيمور بعيدة عن حياة زوجها المهنية، فالكاتب الكبير قراره يكتب ما يريد وينشر ما يشاء، لكن قد لا يعلم كثيرون أن هيكل كان يضعها فى الصورة كاملة قبل أن يخوض معركة صحفية كبيرة، ربما فعل ذلك قبل نشره كتابه عن السادات «خريف الغضب» وقد يكون فعلها قبل محاضرته فى الجامعة الأمريكية التى كشف فيها لأول مرة عن شراسة سيناريو التوريث.. وقد.. وقد.. فهيكل يعرف أن العواصف التى تحيط به، لن تطوله وحده.. بل ستقترب من أقرب الناس إليه، وليس أقرب إليه من هدايت.
لقد منح هيكل نفسه حرية الحرب مع الجميع.. ولم يصادر من هدايت حرية القلق عليه.
لقد أفصح هيكل عما قاله لوالدته بعد أن خرج من الأهرام على يد السادات فى العام ١٩٧٤، قال: «لا تنزعجى يا أمى.. ما دام القلم معى فأنا لم أفقد شيئًا».. لكنه لم يفصح عما قاله لهدايت... أغلب الظن أنها من قالت له، لم تنتظر أن يطمئنها.. فقد كانت مطمئنة لمجرد أنه بجوارها.. أما هو فقد حصل منها على تأييد مطلق لما يفعله، فأخذ الدنيا فى قدميه وواصل تقدمه إلى النجوم.
يشعر هيكل بأنه ظلم هدايت معه كثيرًا، وفى الحوار الوحيد الذى تحدث فيه باستفاضة عنها مع الكاتبة الكبيرة سناء البيسى أفصح عن إحساسه هذا.
قالت له سناء: لقد ظلمتها معك، فقال: «ربما.. قد يكون من حيث إنها لم تكن مستعدة لهذا النوع من الحياة، ولكنها تحملتها وتحملت آرائى المختلفة والمتصادمة مع خلفيتها العائلية، وتحملت بالتالى الدخول فى مناقشات مع الآخرين».
هذا كلامه.. ولا أدرى لماذا لم تسأل سناء البيسى هدايت هذا السؤال؟.. أعتقد أنها لم تشعر أبدًا بشىء من الظلم، حتى وهى فى أشد الحصار.. لقد ارتضت أن تكون إلى جواره، وربما إلى جواره فقط، يمنحها إحساسًا بأنها وحدها ملكة عالمه.. وتمنحه إحساسًا بأنه رجلها الوحيد.. حتى لو كان العالم كله يقف على عتبة بيته وينتظر نظرة منه.
فى تاريخ هيكل كله سنراه رجلًا صلبًا، لا يقدر أحد عليه أبدًا.. تغلب على خصومه وأوجاعه وآلامه.. لم يترك لأحد فرصة لمجرد أن يشعر بلذة النصر عليه، دون أن يلتفت أحد أن وراء هذه الصلابة ظهرًا قويًا.
لقد بحثت عن توصيف دقيق يقترب من حالة هيكل مع هدايت، فلم أجد إلا أنها ضهر الأستاذ، الضهر الذى لا يراه أحد.. فهى السند.. تولت عنه كل شىء يمكن أن يشغله عن مهمته المقدسة التى وهب نفسه لها، لم تتبرم يومًا من كثرة المعجبين وبالطبع المعجبات من حولها، كانت تعرف أنه لها وحدها ولن يشاركها فيه أحد.