رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أخلاق نبيلة

جريدة الدستور


كان الجو حارًا جدًا، وبدا كأن الشمس فى هذه الظهيرة قد تركت أعمالها فى القارات السبع والمحيطات الخمس وتفرغت له، تُفلّى رأسه بأصابعها النارية، فى وقفته فى الشارع، أعزل، بقميص وبنطلون، وفى جيبه الخلفى معاشه الذى تسلمه للتو. أقبلت ميكروباص وتوقفت. لم ير مكانًا شاغرًا قرب نافذة؛ فلم يركب. أقبلت ميكروباص أخرى. لمح فيها مكانًا قرب نافذة. صعد. جلس ودفع بقبضته المرتعشة الزجاج إلى النهاية؛ فهب عليه هواء ساخن من الشارع. قال لنفسه «لكنه هواء على أى حال». بعد قليل ارتقت عتبة السيارة فتاة جميلة فى نحو العشرين. جلست أمامه. تأملها. غزالة ترد الروح، لو أن الغزالة تستخدم وسائل نقل عام. أحصى بعينيه المقاعد التى ما زالت شاغرة. تحسس الفلوس فى جيبه الخلفى. أحس بالعطش يشرخ حلقه. استغبى نفسه؛ لأنه لم يشتر زجاجة ماء، مع أن المحل كان على بعد خطوة. تطلع إلى ظهر الفتاة وقماش البلوزة الحريرى. استنشق عطرها الذى طاف بخفة حول شعرها ورقبتها. نقل بصره بين كتفيها ورأسها المحنى فى الغالب على موبايل. حلقه ملتهب. هل يهبط ويشترى زجاجة ماء ويرجع بسرعة إلى مقعده؟ أم أن أحدًا فى تلك الأثناء قد يستولى على مكانه؟ شاهد السائق فى الشارع بجوار السيارة مستندًا بكفه إلى مقدمتها يصيح بخط سيره. زج برأسه من النافذة يناديه «يا ريس.. يا ريس»، لكن صوته لم يصل إليه فى الضوضاء. امرأة كانت تجلس فى كابينة القيادة استدارت بكتفها للخلف. قالت تخاطبه: «عاوز حاجة حضرتك؟». سيدة كبيرة. وجهها مدور، ريان، مثل فطيرة من خير زمان. دهش من دقة شعورها بمن حولها. أى روح مرهفة! وأى أخلاق نبيلة! قال ممتنًا: «لا والله.. أنا بس عطشان.. وكنت عاوز أشترى زجاجة ماء من المحل اللى قدامنا.. لكن مش معقول». لم تنطق المرأة بكلمة. فتحت باب الكابينة ودلت قدميها إلى الإسفلت ونزلت. وقفت أمام باب الركاب فى الصالون، ومدت كفها نحوه قائلة: «هات أجيب لحضرتك». قال مشدوهًا: «ما يصحش والله!». قالت ببسمة عامرة بالطيبة: «إزاى ما يصحش؟ دى حاجة بسيطة». تمتم شاكرًا وناولها ورقة بعشرة جنيهات. مضت بخطوة نشطة إلى المحل. ألقى نظرة على ظهر الغزالة الجالسة أمامه. كتفان مدورتان مثل فاكهة طرية أثارت رغبته فى أن يطويهما إلى صدره. رجعت المرأة. ناولته بقية الفلوس وزجاجة ماء باردة. انفعل بنخوتها وقال لنفسه «يستحيل أن تلقى أحدًا الآن بهذا النبل». قال بتأثر: «تسلمى من كل سوء». انتبهت الغزالة إلى الحوار بينهما فأدارت رقبتها تتأمله. قالت له المرأة ببسمة خفيفة: «إحنا نشأنا على أن نحترم الكبير ونخدمه». شىء فى كلامها عن «الكبير» أيقظ فيه شعورًا بالحذر. قالت المرأة: «وحضرتك زى والدى» هتف فى سره «كفاية». اختلس نظرة إلى الغزالة التى تفحصته بنظرة تقدر سنه. قالت المرأة وعيناها تنديان بالحنان: «وأنا زى بنتك». امتزج شعوره بالامتنان للمرأة بالغضب. أدارت الغزالة رقبتها إلى الأمام منصرفة بعيدًا إلى نفسها. بدت له كلمات المرأة مثل مضرب يقذف الكرة بعيدًا، ثم يمضى إليها ثانية ويعود لضربها حتى تختفى. صاح فى سره متوسلًا إليها: «كفاية بقى»، لكن المرأة مدت كفها إلى ركبتيه تربت عليهما بعطف. تنهد متأثرًا من كل ذلك الحنان الجياش، وهو يصيح فى نفسه: «كفاية.. يا جزمة يا بنت الجزمة.. كفاية». نهض وهبط من الميكروباص.