رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافي يكتب: يحرم علينا دخانك.. التاريخ السرى للحشيش فى مصر


الغرزة شكة دبوس، والغرزة عند الخياط، والغرزة يخطفها سائق ماهر على طريق سريع فتثير الرعب فى قلب راكب بجواره، وهى التى يؤديها زميل ماكر للوقيعة بينك ‏وبين رئيسك فى العمل، ويقال إن قرية فى اليمن تحمل هذا الاسم.‏
وفى مصر وحدها، يكون للغرزة دخان أزرق يخرج من فتحة بابها الضيق فى حارة مظلمة، غرزة مغروزة وسط بيوت متهدمة وحاصلة على قرارات إزالة وعشرات ‏مثلها وسط مدافن السيدة نفيسة وسيدى زين العابدين وقايتباى وممرات جامع عمرو بن العاص وحتى مطلع القلعة وما حولها، وصولًا إلى الباطنية ومداخل ومخارج ‏مصر العتيقة. وفى الستينيات، انتشرت الغرز، فالحياة بمبى وعبدالناصر هو الأب والكبير اللى مظبط الدنيا و«الأشية معدن»، وبقروش قليلة ينعدل المزاج، و«أنا وحبيبى ‏يا نيل.. نولنا أمانينا».‏
ومع النكسة التى كسرت أعناق الرجال وأدخلتهم معادلة الهزيمة وقهر تساؤلاتها المريرة، كانت هى الملاذ حيث الأنفاس والكركرة والكلام الفضفضة والبكاء وصوت أم ‏كلثوم: «كان لك معايا أجمل حكاية فى العمر كله». وجاءت «ثرثرة فوق النيل» كمجموع لكل هذه الغرز الصغيرة والمتناثرة فى أزقة القاهرة وحواريها، لكن فى ‏‏«عوامة»، ليكون الأدب هو المدخل إلى هذا العالم.‏

‏«المعلم جلال» أبرز الغرز لصاحبها «حرامى الخزن».. و«البودرة الزرقاء» ‏حصرى عند «منجة»‏
الغرزة كلمة ساحرة بحروفها القصيرة السريعة التى تحمل من المكر والشيطنة الكثير، وعندما تقولها تكاد ترى عالم الحشيش والدخان والضوء الخافت يقفز إلى رأسك، لكنك لن تصل إلى واحدة ‏منها إلا إذا كنت من «المشائين العظام»، باعتبارهم خبراء يعرفون خبايا الشوارع وأسرارها الصغيرة.‏
وغرز «الإمبابى» و«حكيم» و«المعلم جلال» و«منجة»، كانت جميعها فى حى «معروف» بوسط القاهرة، ورغم أنها تقبع مع عشرات الغرز خلف شارع «سليمان» الغارق فى الضوء النيونى ‏المبهر ليل نهار ويخترقها من القلب شارع «عبدالخالق ثروت» وبالعرض شارع «شامبليون» الذى ينتهى بدار القضاء العالى ونقابة الصحفيين- إلا أن الوصول إليها لم يكن سهلًا.‏
فللوصول، كان عليك أن تعبر مجموعة من الحوارى الضيقة الملتوية التى يغلفها الليل ببوابات من الظلام الحديدى حتى تصل. والماشى- العادى- فى هذه الشوارع الثلاثة يشعر بأنه مازال فى قلب ‏القاهرة المدينة العامرة، فإذا كان من «المشائين» الذين يبحثون عن ثقب فى عباءة ليل القاهرة، فإنه يضرب فى حوارى تتسع بالعافية لجسد واحد يمر، فإن صادفه مُقبل، فلا بد أن يلتصق أحدهما ‏بالحائط كى يمر الآخر.‏
وانتشرت الغرز فى تلك المنطقة التى لم تكن سوى هديم يخلو من السكان، فجاء سكان جدد استولوا على الهديم، نزعوا حديده وخشبه، وأقاموا بها فى المساحات الفارغة عششًا للسكن، ومحلات ‏للبيع والشراء، وغرزًا للتحشيش، وورشًا للدوكو والمفاتيح والسمكرة.‏
وتألقت غرزة «الإمبابى»، النموذج المتكامل لما تحب أن تراه وتعرفه عن هذا العالم السحرى، وهى عبارة عن دكانة صغيرة كانت فى الأصل فراغًا فاصلًا بين جدارين أشبه بـ«منور» مفتوح ‏على الشارع يستفيد به منزلان متجاوران.‏
ومن الواضح أن «الإمبابى» استولى على هذا «المنور» وصنع له سقفًا وبابًا خشبيًا وبنكًا صغيرًا وملأه بالرفوف الخاوية، محولًا إياه إلى دكانة لبيع السجائر والدخان والمعسل والأسبرين والفحم ‏المعبأ فى أكياس من النايلون، ووضع بجواره ثلاجة من التى توزعها شركات المياه الغازية، ثبتها فى الأرض وشغلها أيامًا ثم هجرها وصنع لبابها قفلًا بجنزير واتخذها مخزنًا لبعض الحاجات. ‏
وتختلف «الإمبابى» عن غرزة «المعلم جلال» التى تبدو نظيفة ومهندمة، والمعلم جلال أشهر حرامى خزن فى مصر، خارج من مؤبد، وتركوه يفتح هذه الغرزة أفضل من فَتح الكروش وكسر ‏الخزائن.‏
غرزته جميلة فعلًا، نظيفة، منضبطة، تأخذ شكل المقهى بما يتوافر لها من كراسىّ ومناضد بمفارش ملونة مصفوفة داخل العشة الكبيرة الواسعة كملعب الكرة وخارجها، لها نصبة مبنية بالرخام ‏والقيشانى مزودة بأفخر الأكواب والبراريد والصوانى النحاسية والطقاطيق والنرجيلات للمعسل، و«الجوز للتحشيش الصرف».‏
الصبيان الذين يخدمون الزبائن على شىء من النظافة وحسن الخلق، ينطوون على خشونة وعجرفة وغطرسة مستمدة من شعورهم بقوة معلمهم وسطوة نفوذه، يرفعون سعر الحجر إلى قرش ‏صاغ بدلًا من قرش تعريفة، يعنى ضعف سعره فى الغرز الأخرى، والشاى إلى قرشين، للمحافظة على مستوى الزبائن وطرد الواغش، وفق ما يعتقدون.‏
الدخول إلى الغرز كان يقتضى المرور على بازار المعلم «على منجة»، ولا تغرك كلمة «بازار» فهو مجرد دكان صغير جدًا يبيع السجائر وأنواع الحلويات المغلفة والمياه الغازية، مجرد مظهر ‏فحسب، أما التجارة الحقيقية لـ«على منجة» فإنها الحشيش والأفيون.‏
هو خريج سجون أيضًا، لكنه بالإضافة إلى ثقل ظله، كان «دحلاب»- كما ورد فى الإعلان الشهير- رجل أريب مصه الأفيون، لوعته السجون العديدة المتوالية، تعرفه الأحياء القاهرية البعيدة ‏نظرًا لحرصه الشديد على مستوى جودة الصنف.‏
تخصص «على منجة» فى حشيشة من البريمو تعرف بـ«البودرة الزرقاء»، لا يغيرها مطلقًا، ما يؤكد أنه يتعامل مع مصدر واحد من أصحاب المزارع فى لبنان، وذلك أمر يحرص دائمًا وأبدًا ‏على تأكيده عن كل «فتفوتة» يبيعها لزبون حتى وإن كان هذا الزبون عجولًا وغير معنى بمعرفة شىء من هذا.‏
عيب المعلم «على منجة» أنه يمص دم المشترى بصنعة لطافة، وإن كانت اللطافة ملحاحة سمجة مكشوفة، فإنه ناعم وسام كثعبان صحراوى، وجهه فى لون الشيح من فرط هزاله وهروب الدم، ‏لا تكاد تراه، غليظ الشفتين متآكل الأسنان.‏
أنت إذن لا بد ستشرب هذا الحشيش فى واحدة من مجمع الغرز فى حى «معروف»، برحاب ضريح الشيخ معروف نفسه، هى كلها غرز تحت عينى المعلم «على منجة» وفى متناول يده فى أى ‏لحظة من ليل أو نهار، وما أسهل أن يطُب عليك كالقضاء المستعجل فى لحظة لا تتوقعه فيها على الإطلاق.‏
الدفع أو الفضيحة كلاهما صعب ومهين، لو أنك تعرضت لـ«التهزيق» فى الغرزة مرة واحدة بسبب الفلوس بوجه خاص، فلن تفلح فى استرداد كرامتك بعدها مطلقًا مهما بالغت فى الإنفاق عن ‏سعة.. والمشكلة أن «على منجة» يبيعك الربع قرش بأربعين قرشًا فى عز الرخص.‏


مؤرخ الصعاليك خيرى شلبى يكشف كل شىء عن «عالم الكيف»‏
ها أنت قد شاهدت جزءًا بسيطًا من عالم الحشيش فى الغرز، وعرفت الزمن الذى كانت منتشرة فيه، لكنك لن تصل إلى تفاصيلها وعالمها ودخانها إلا إذا كنت واحدًا من دراويش الكاتب الكبير ‏خيرى شلبى، فهو القائد والإمام والكومندا لهذه المنطقة من عالم الصعاليك والمهمشين والساقطين من حسابات العالم كله.‏
اختار أبناء جيله من الروائيين مشروعاتهم الإبداعية، فتفوق جمال الغيطانى فى التراث، واختار إبراهيم أصلان تأمل ناس إمبابة وخرج منها بـ«الشيخ حسنى» أيقونة السينما المأخوذة من روايته ‏‏«مالك الحزين»، وذهب سعيد الكفراوى إلى قريته يتأمل حيواناتها ودجاجها.‏
‏«شلبى» من جهته اختار المشى فى مناكبها، فكانت الشوارع والحوارى تليق بمسيرته كروائى كبير جاء ماشيًا من قرية «شباس عمير» إلى دمنهور والإسكندرية ثم القاهرة، وعمل بائعا سريحًا ‏يحمل على صدره الدبابيس والمشابك وزهرة الغسيل.‏
وهو صاحب اختراع «المشائين» أولئك الذين جعلهم أبطالًا لأعماله يتجولون معه فى الحوارى ويصعدون جبل المقطم عند أولياء الله الصالحين ويعودون إلى شارع المعز ومنه إلى وسط القاهرة ‏حيث الليل وأسراره وحكاياته.‏
أخذت هذه الأسرار والحكايات بطل رواية «موال البيات والنوم» فى مسيرة بحثه المضنى عن مكان للنوم، إلى حارات ضيقة وسط الظلام يظل ماشيًا بها، حتى يرى من بعيد بعض ألوان شاحبة ‏فى أكثر من موضع، هى لمبات الجاز السهراية ذات الفتيل المدخن ينبعث ضوؤها العليل من فتحات متباعدة من طاقة فى جدار من باب صغير كباب «خُن» الدجاج.‏
فى أى فتحة من الفتحات يمكنك أن تميل برأسك وتطل دونما صفاقة أو تبجح بل يمكن أن تنحنى وتدخل برأسك وتلقى السلام، فإن لم يكن فعليك الإيحاء بأنك معروف لهم.. يكفى أن تذكر اسم واحد ‏من المترددين.‏
هكذا يُنبئك خيرى شلبى، وهكذا تفعل الكتابة حين تجعل المستحيل ممكنًا والخيال واقعًا تستطيع أن تراه وتتعرف على شخصياته وحواراتهم فى السياسة والدين والجنس أيضًا.‏
فلم يكن زبائن الغرز مجرد مهمشين وناس صيع ضاربهم الكيف، لكن كان بينهم صحفيون وفنانون وموظفون كبار فى القطاع العام ومساتير التجار ودراويش كرة قدم وأبناء ضباط الثورة ‏الموسرين الذين حلوا محل أبناء الباشوات يدفعون البقشيشات بغزارة.‏
ووراء كل واحد منهم قصص وحكايات هى التى صنعت المجد الروائى الكبير لـ«خيرى شلبى» الذى بدأ الكتابة فى المقابر وابتعد تمامًا عن الصراعات والشلل الثقافية، فأصبح سيدًا للحكى ‏ومؤرخًا للهامشيين والصعاليك، وزعيمًا للمهمشين.‏
لا يتركك خيرى شلبى تدخل الغرزة فقط، لكنه يصف لك ما سيحدث بعد أن أحنيت رأسك وألقيت السلام ودخلت، فيطمئنك بأنك ستجد من يرحب بك ويفسح لك رقعة تتربع فيها ويزغد النيام ‏يأمرهم لإفساح المكان أو الخروج إلى الخلاء حسبما فى مظهرك من خير متوقع.‏
وما إن تجلس وتتربع حتى يجيئك بائع الحشيش والأفيون ليفرجك على ما معه من الصنف، سيعد لك صاحب المكان حجارة الدخان المعسل، أما النار فمشتعلة على الدوام، يسقيك عشرين حجرًا، ‏خمسين، مائة، الحجر بقرشين.‏
تخرج بعدها وأنت آخر تمام، تخبط فى ظلام الحارة، وتدوس فوق كلاب وقطط وأكوام زبالة، وبعد خطوات تصير فى شارع «شامبليون» ومنه إلى شارع «سليمان» أو «الأنتيكخانة» أو ‏‏«عبدالخالق ثروت»، لترى الشوارع والأشياء بألوان وأشكال غير التى اعتدت أن تراها، كأنك قادم من زمن سحيق إلى مدينة تعج بالنيون والبشر.‏
ستكلفك هذه الدماغ ٥٠ قرشًا إن كنت تشرب «الشعبى الكبس»، وجنيهًا كاملًا إن كنت تشرب «الهبو البريمو».‏
حشيش المقهى خسارة فيه الفلوس.. يختصر نصف المتعة.. ولا سلطنة إلا فى الغرزة
الحشاشون العتاة يفضلون التحشيش فى غرزة صريحة وليس مقهى، وكلما كانت الغرزة أقرب إلى الكهف أو القبو أو الجحر أو الخن، لعبت بمزاج الحشاشين، وأثارت خيالهم.‏
وكان الحشيش مزاج المصريين بعد النكسة، يضرب المخدر أدمغتهم فيهربون من واقع مؤلم، وكما تخبرنا روايات خيرى شلبى التى تقصت حكايات هذا العالم السرى، فإن «المزازنجية» دائمًا ما ‏يفضلونه فى الغرزة.‏
وأجمع أعضاء شلة السهر فى رواية «نسف الأدمغة» على ذلك، وعادت شلة المزاج فى رواية «وكالة عطية» لتؤكد الفكرة، واتفقت شلة «المشائين» فى «صالح هيصة» على أن الحشيش فى ‏المقهى خسارة فيه الفلوس، لأن المقهى يختصر من المزاج نصف المتعة، ويؤخر وصول الدماغ إلى مرحلة الفل.‏
فالشرب على المقهى بطىء جدًا بحكم الزحام، والحجارة تجىء عشرًا عشرًا مهما كان عدد الشلة كبيرًا، والواحد لا ينوبه من الطرحة إلا حجر واحد، وإلى أن تجىء العشرة التالية ويتم تغيير ماء ‏الجوزة وطحن النار فى المصفاة، تكون الأنفاس السابقة على ضآلتها قد تبخرت من الدماغ.‏
وإذا صاح أحد فى استعجال الصبى أو فى طلب جوزة إضافية ردوا عليه فى برود بأن «الصبر حلو» و«الله مع الصابرين» و«الدنيا ما طارتش ومش هتطير» و«كل تأخيرة وفيها خيرة»، إلى ‏آخر هذه الردود الجاهزة المثيرة للغيظ والغضب.‏
ثم إن الراديو عندهم مفتوح بأعلى صوته لا سبيل لتخفيضه، لأن الجميع من حقه أن يسمع، فى الوقت نفسه من حق الجميع أن يتكلم، وفى ظل الراديو الصادح لا كلام إلا بأعلى صوت. مثل هذا ‏الضجيج يتكفل وحده بتطيير أعمق الأنفاس، يصدع الدماغ مهما كانت التعميرة جيدة، ومن مصلحة «المعلم جلال» بالطبع ألا تشعر بـ«الانسطال» أبدًا لكى تظل تشرب وتشرب إلى غير نهاية.‏
وقد حددت الشلة بكامل هيئة أعضائها أسباب الغرام بالغرزة، فالحشاش المحترف تتضاعف متعته إن كان جالسًا حيثما كان للتحشيش فحسب، والغرز الصريحة كالبارات لا تشغل نفسها بأى شىء ‏آخر، تتسلم الحشاش من لحظة جلوسه بأطقم من الحجارة وراء بعضها فى كثافة لا تضيع دقيقة واحدة.‏
وفى مصر، يخجل الناس من كلمة حشيش، ويتعاملون بحساسية أقل مع كلمة «خمور»، وتلك كانت أزمة أبطال رواية «ثرثرة فوق النيل»، فيتساءل الضيف الوافد فى حيرة: «الحشيش ممنوع ‏والخمرة مش ممنوعة طب ليه؟.. ده بيسطل المخ ودى بتسطل المخ.. ده حرام ودى حرام.. ده بيضر بالصحة ودى بتضر بالصحة.. الحشيش غالٍ والخمرة أغلى منه.. اشمعنا القانون متحيز ‏للخمرة؟.. القانون بيفوت للخمرة عشان بندفع عليها ضرايب، طب مايفوت للحشيش وندفع عليه ضرايب».‏
ورغم طرافة الحوار، فإن ارتباط الحشيش بعالم الفن والغناء فى عشرينيات القرن الماضى جعل كثيرين يعتبرون الخلاعة والمجون عنوانًا لكل أهل الفن، لتخرج طقطوقة سيد درويش «الحشاشين- ‏التحفجية» التى كتبها بديع خيرى، لترد على هذا المنطق:‏
أقولك الحق
يوم ما نلقى بلادنا طبّت فى أى زنقة
يحرم علينا شربك يا جوزة
روحى وإنتِ طالقة مالكيشى عوزة
دى مصر عاوزة جماعة فايقين.. يا مرحب
ويذكر الدكتور شوقى ضيف فى كتابه «الفكاهة فى مصر» أن شلة «المضحكخانة» التى اخترعها حسن الآلاتى كانت ظاهرة غريبة وأضافت إلى الأدب الساخر، إذ كان أفرادها يجتمعون فى ‏حى الخليفة، للتندر والتأليس على خلق الله، سواء فى السياسة أو الفن.‏
وأظن أن الحشيش كان عضوًا بارزًا فى تلك المجموعة التى لم تأخذ حقها من البحث والدراسة، وكان حسن الآلاتى الذى فقد بصره فى طفولته قد بدأ حياته فى الأزهر وتحول إلى الغناء وأصدر ‏كتابًا بعنوان «ترويح النفوس»، وكان يتمتع بخفة ظل جعلته ذات يوم يجلس يستمع إلى شاب حسن الصوت، فأعلن إعجابه بصوته فقال الشاب: «أنا اليوم أغنى مثل الشيخ حسن الآلاتى»، فرد عليه: ‏‏«بس ناقصك العمى يا ابنى».‏
‏«صالح هيصة» يهزم أنس «وزير شئون الكيف» فى «ثرثرة فوق النيل»‏
الذين قرأوا رواية «ثرثرة فوق النيل»، أو شاهدوا الفيلم المأخوذ عنها بسيناريو ممدوح الليثى وإخراج حسين كمال، سيجدون فى شخصية «أنيس» نموذجًا للغرزجى والمهام التى يقوم بها.‏
وليس كل من أجاد رص المعسل يصلح ليكون «غرزجى»، فتلك مهنة تحتاج لمحترفين يمتلكون مهارات خاصة تبدأ من القدرة على الإمساك بالجوزة بيد ومصفاة النار بالأخرى، واللف على الزبائن فى ‏توقيتات مظبوطة، للضغط على الحجارة لإحكام الأنفاس، وكلما أجاد أداء المهام فى صمت دون إزعاج، ارتفع البقشيش وكسب زبائن أكثر.‏
كتب نجيب محفوظ روايته عام ١٩٦٦ قبل النكسة بعام، ورصد فيها حالة الضياع والتوهان التى يعيشها المواطن المصرى «أنيس» الموظف بوزارة الصحة نهارًا و«وزير شئون الكيف» فى عوامة ‏المساطيل ليلًا.‏
وكان من الصعب ظهور الجوزة والأنفاس على الشاشة، فإن النكسة وتوابعها أرغمت رجال «عبدالناصر» على البحث عن وسائل جديدة تساعد الشعب المكلوم فى بلواه، وكانت فكرة «ثلاثى أضواء ‏المسرح» والاهتمام بـ«فرقة رضا» جزءًا من خطة الترويح عن الحزانى.‏
صحيح أن الأدب منذ الجيل الأول فى الرواية المصرية تناول الحشيش ووصف عالمه الكبير من غُرز ومزاج ومقاهٍ، لكن «ثرثرة فوق النيل» عبارة عن غرزة فى عوامة، والشخصيات مجموعة أوغاد ‏يعيشون العدم، لا يمتلكون أى أمل سوى كركرة الجوزة فى انهزامية وإحباط، والشخصية الوحيدة الجادة هى الصحفية «سمارة بهجت»، فماذا يفعل الرقيب لتمرير الرواية إلى السينما؟!‏
كان لا بد أن تقفز الأحداث من ١٩٦٦ إلى ما بعد النكسة وبداية حرب الاستنزاف، وكان لا بد من نهاية تليق بأبطال المقاومة الشعبية الذين يثأرون للكرامة المجروحة فى عمليات فدائية شملت مدن القناة ‏كلها، وتذهب «سمارة بهجت» مع «أنيس» إلى الجبهة ويعود بسحر المعارك وقد استيقظ ضميره فيصرخ: «الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا.. يا ناس فوقوا.. الحشيش اللى إحنا فيه متشربهوش.. فوقوا».‏
وعرض الفيلم عام ١٩٧١، ليكون بداية لظهور مكثف للجوزة ومستلزماتها بعد ١٩٧٦، وبعد تخفيف الرقابة بقرار من وزير الإعلام والثقافة، نجح حسام الدين مصطفى فى استغلال الظرف التاريخى ‏وقدم فيلم «حكمتك يا رب» لسهير المرشدى وسناء جميل و«زكى قدرة» الشهير بالفنان عادل أدهم الذى سيتألق فى أدوار الجوزة وستصبح جزءًا من شخصيته فى «الراقصة والطبال» مع نبيلة السيد ‏وأحمد زكى ونبيلة عبيد بالطبع.‏
وبلغت الجوزة والكركرة ذروتها مع حسام الدين مصطفى أيضًا، فأقدم على تجربة فيلم «الباطنية» ليظهر أول «أفيش»، وعليه نادية الجندى تحتضن الجوزة فقط.‏
‏«أنيس» الشخصية التى جسدها الفنان عماد حمدى فى «ثرثرة فوق النيل» هو محور حديثنا هنا عن «الغرزجى»، فقد كان يؤدى تلك المهمة كهاوٍ، وراقت له الشغلانة كمزاج بعد أن عرف جميع ‏الموظفين أنه «حشاش» يحدق فى السقف ليل نهار.‏
وفى العوامة، كان هو أسطى المزاج الذى يجيد أداء بعض أعمال الغرزجية ويكون فى غاية السعادة إن نجح فى إشعال نار الفحم كما يصفه محفوظ: «حمل أنيس المجمرة إلى عتبة الشرفة بعد أن ‏زودها بقطع من الفحم تعرضت هناك لتيار هواء، وراح ينتظر واتسعت المراكز المحترقة فى شتى القطع، حتى استحال سواد الفحم حمرة متوهجة هشة ناعمة، واندلعت عشرات الأسنة الصغيرة ‏فانتشرت ثم تلاقت مكونة موجة راقصة نقية شفافة مكللة الأطراف بزرقة خيالية، ثم أزت فتطاير من جوفها سرب من عناقيد الشرر، وصرخت أصوات نسائية فأعاد المجمرة إلى مكانها واعترف فيما ‏بينه وبين نفسه بإعجابه غير المحدود بالنار».‏
لكن «أنيس» ليس «غرزجى»، فالغرزجى يحتاج إلى عدد من المساعدين يقوم أحدهم بتنظيف الحجارة، والآخر بتعبئتها بالمعسل، وثالث لتغيير ماء الجوزة.‏
أما «هيصة» فتفوق على كل غرزجية مصر، ليس فى احترافيته فقط أو قدرته على القيام بكل هذه المهام لعدد كبير من الأفندية، لكن لشخصيته الواثقة المثيرة التى تحولت إلى عمل روائى حمل اسمه ‏‏«صالح هيصة». والمؤلف هو عمنا خيرى شلبى بالطبع.‏
‏«صالح» هو الغرزجى الذى يقربع السبرتو فجأة، فيصنع «الهيصة» فى المكان كله، ومن هنا اكتسب اسمه، والحقيقة أن العمل الرئيسى لـ«صالح» هو تسليك آلاف من حجارة الشيشة يتلقاها يوميًا فى ‏برميل كبير ملىء لحافته بما لا يقل عن ٣ آلاف حجر حرقت على مدى يوم وليلتين تقريبًا.‏
عليه أن ينظف هذه الحجارة كحتًا بالسكين، ويسيخها بخرقة مبلولة، ثم يحشر فى كل حجر حصوة ملائمة لفتحتها بالضبط، ورغم هذا العمل الهامشى، فإن «صالح هيصة» أصبح هو غرزة «حكيم» ‏التى تدور داخلها أحداث الرواية.‏
هو أسطورة المكان الذى عاش بعمله هذا وسط شلة مكونة من مئات الأدباء والصحفيين والإذاعيين والمهندسين، وسيطر على عقولهم جميعًا بما يمتلك من نبل وشهامة وتمرد وسعة أفق فى الحياة.‏
‏«دولة الحشاشين» من أحمد فؤاد نجم لـ«حسن الصباح»‏
‏«كنت أقصد بورسعيد يا روح أمك!».. قالها أحمد فؤاد نجم لأحد الحاضرين فى جلسة خاصة عندما سأله بروح المثقف الفكيك: «لمّا كتبت قصيدة يا إسكندرية.. كنت تقصد إيه بإسكندرية؟!». لم يفكر ‏‏«الفاجومى» فى الجواب وقال جملته الشهيرة التى يتناقلها عشاقه ومحبوه ضمن مجموعة ضخمة من نوادر وقصص كانت تدور معظمها فى جلسات خاصة.‏
وعندما نقول أحمد فؤاد نجم وجلسات خاصة، فإننا نقصد الحشيش بلا شك، فلم يكن «الفاجومى» يخجل من هذا الأمر، ولا يعتبره جريمة تستحق التبرؤ منها، وعندما كان يفكر فى تأليف كتاب عن ميلاد ‏قصائده وأغانيه، كان مشغولًا جدًا بالبحث فى ذاكرته لأن معظمها مولود فى جلسات خاصة، وشامم ريحة الحشيش مع أول صرخة لا مؤاخذة.. فماذا سيكتب وكيف؟
لم يستمر السؤال طويلًا، فأصدر جزءًا أول بعنوان «حكايات القصائد» عن دار نشر «زينب»- وهو اسم ابنته ويبدو أن الدار توقفت بعد ذلك- حكى فيه عن أول لقاء مع الشيخ إمام فى غنوة: «أنا أتوب ‏عن حبك أنا»، وكان الحشيش حاضرًا بالطبع.‏
ففى إحدى السهرات داخل بيت الشيخ إمام فى حوش آدم، يقول نجم إنه حضر بصحبة سعد الموجى: «بعد العشا بدأنا الذى منه، وكان الصنف ليلتها بريمو والدماغ عالية، وفجأة قال سعد الموجى، كلنا ‏شوق ولهفة لاحتضان المولود الجديد المشترك بين مولانا والأستاذ نجم»، فضرب نجم يده فى جيبه، وأخرج غنوة تقول كلماتها: ‏
ما بين دا قال.. ودا بيقول.. محيرنى فى هواك على طول ‏
تغيب عنى يا دوب ساعتين.. تجينى بكلمة قالها عذول ‏
ويتمد العتاب ليلتين.. ف قلنا وقال ‏
وفهم أنها لم تعجب الشيخ، لأنه طلب منه كتابتها فى ورقة من جديد ليحتفظ بها، فمزق نجم الغنوة وجلس يكتب «البكرية» أو أول عمل مع الشيخ إمام، وهى الغنوة التى صمدت حتى اليوم بعد أن غناها ‏المطرب الشاب محمد محسن: ‏
أنا أتوب عن حبك أنا.. أنا ليا فى بعدك هنا!‏
وأظن أيضًا- وبعض الظن إثم- أن مصر كانت هى الميلاد الحقيقى لـ«دولة الحشاشين» التى أسسّ أركانها الحشاش الأعظم فى التاريخ «حسن الصباح»، إحدى الشخصيات الاستثنائية فى الكوكب.‏
فذاك الرجل القصير المكير، نجح فى تجنيد جيش كامل بصباع حشيش، وصنع دولة من القتلة والمجرمين والسفاحين بصدور النساء وإغراءات الجنس، أخذهم إلى قلعة حصينة أقصى شمال إيران، وجاء ‏بالنساء والفاكهة، وقال لهم هذه هى الجنة ولن ينالها إلا الشهيد، والشهيد لن يصبح كذلك إلا إذا غرس الخنجر فى كبد أعداء الدين.‏
فأكلوا الفاكهة وتذوقوا النساء، وسجدوا له وهم يرتدون السراويل متجهين إلى الجهاد وعائدين إلى النساء والحشيش شهداء أو أحياء، وانطلقت عمليات الاغتيال السياسى فى كل ربوع العالم الإسلامى، من ‏بغداد حيث السلطان العثمانى إلى القاهرة حيث «المستعلى».. وأهل السنة أيضًا.‏
عاش «الصباح» هنا فى القاهرة، وكان مقربًا من الخليفة الفاطمى «المستنصر»، وعندما توفى الخليفة وجاء إلى الحكم أخوه «المستعلى» قال «الصباح» إن مؤامرة تم تدبيرها لإبعاد «نزار» ابن ‏‏«المستنصر» لتولية «المستعلى»، واعتبرها خروجًا على أصول العقيدة الشيعية يستوجب منه الرحيل، وأعلن الحرب ضد الجميع فصنع «دولة الحشاشين».‏
ودخل هذا المصطلح قاموس اللغات الأوروبية، وأصبح مرادفًا لكلمة «‏Assassin‏» أى «القتلة المأجورون»، وعاشت قلعة «ألمُوت» أو «عش النسر» بالفارسية فى خيال الأدباء.‏
وسواء رأيت «الصباح» مجرمًا أو سفاحًا، فإن عبقريته فى تجنيد هؤلاء الحثالة من المنتمين لجنس البشر تستحق أن تكون عملًا روائيًا شهيرًا، وهذا ما فعله فلاديمير بارتول مؤلف رواية «قلعة ألمُوت»، ‏التى صدرت عام ١٩٣٨ وترجمت إلى عدة لغات.‏

لماذا يتلهف الحشاش لقراءة المكتوب على المباول العامة؟
انتبه الأستاذ «بنيامين» فجأة لنفسه وهو يحدق فى العبارات المكتوبة على حوائط المباول العامة، وشعر بالخجل من عيون السادة المتبولين التى كانت تراقبه فى دهشة.‏
وإن كانت كل أشكال الكتابة تخبرنا بأن هناك حالة يسعى المبدع للوصول إليها، وأن البحث عن هذه الحالة غير المعروفة جعل «فرويد» صاحب النظرية الجنسية الشهيرة يتعاطى الهيروين ويحاول ‏فيما بعد وصف الحالة التى يأخذها إليها هذا المسحوق اللعين، وكذلك فعل بيكاسو وسلفادور دالى بتعاطى أنواع من المخدرات بحثًا عن مجهول، فإن السيد «بنيامين» قرر أن يتعاطى الحشيش عن ‏طيب خاطر، وأن يكتب انطباعاته بعد كل سيجارة يضربها، فراح يكتب تجارب جاء معظمها سخيفًا وثقيلًا وجاء قليل منها مضحكًا ولطيفًا.‏
صاحبنا هذا هو «فالتر بنيامين» فيلسوف ألمانى كبير أخضع نفسه للمخدرات فى تجارب علمية أجريت منذ ١٩٢٧ حتى ١٩٣٤، فى برلين ومارسيليا، ولم يكن وحده فى هذه المغامرة، فقد شارك ‏معه عشرات من الفلاسفة والأطباء والباحثين، لكن هذا لا يمنع أن كثيرًا من انطباعاته كان هزليا، ويتناسب مع مرحلة السريالية فى عشرينيات القرن الماضى.‏
بدأ «بنيامين» فى توثيق تجاربه صباح ١٨ ديسمبر عام ١٩٢٧، وكتب ما سمّاه «الملامح الرئيسية لانطباعى الأول عن الحشيش»، الذى يقول فيه: «أطياف تحوم ضبابية الحواف فوق كتفى اليمنى، ‏برودة فى ذلك الكتف، لدى شعور بأن هناك أربعة آخرين فى الغرفة غيرى».‏
لكن الأهم فى كتابه «عن الحشيش» الصادر عن «الكتب خان» للنشر والتوزيع بترجمة السودانية سماح جعفر وتحرير الشاعر والمترجم هرمس- أن هناك شبه توثيق بأن الحشيش خرج من مصر ‏إلى كل الدنيا، ولم يعرف الفرنسيون أن القنب الذى يملأ حقولهم يصلح ليكون مادة مخدرة إلا مؤخرًا.‏
ويذكر المترجم أن خلاصات نبات القنب كانت تشكل جزءًا من وسائل العلاج الشعبى فى أوروبا لعدة قرون، لكن الحشيش لم يصبح معروفا إلا فى القرن التاسع عشر، وقيل إن جيوش نابليون ‏أحضرته إلى أوروبا بعد عودة الحملة.‏
وقدم المستشرق «دو ساسى» مذكرة حول استخدام الحشيش من قبل جماعة الإسماعيلية الراديكالية، وكيف ساهمت فى تطوير خيال البوهيميين الباريسيين، ما أدى إلى إنشاء نادى الحشاشين فى ‏باريس عام ١٩٤٥ وهو صالون فى فندق بجزيرة سان لوى كان بودلير وبلزاك من رواده الرئيسيين حيث يأكلون فيه الحشيش على هيئة معجون ممزوج باللوز.‏
وإن كانت قواميس اللغة الأوروبية تستخدم كلمة (‏Assassin‏) للإشارة إلى الحشيش، فإن ذلك يعكس مدى تأثير «جماعة الحشاشين» التى قادها «حسن الصباح»، وقلنا إنه عاش بالقاهرة قبل أن ‏يرحل إلى إيران، لتشكيل دولة الاغتيالات السياسية.‏