رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافي يكتب: حكايات من رحلة البهجة فى عالم العميان


فى مراحل مختلفة من حياتى فكرتُ فى العمى، أغمضتُ عينىّ وقررت السير إلى السلم فاندلقت على وجهى صغيرًا، وكررت التجربة عندما انقطع التيار الكهربائى ورحت أتحسس الطريق إلى درج المطبخ بحثًا عن علبة كبريت أو شمعة، فتعثرت وانشق رأسى، وتوصلت بعد تجارب فاشلة عديدة إلى أنك تستطيع مشاركة جميع المرضى والمعاقين معاناتهم، لكنك لن تبلغ العمى، ولن يراك أو يهتم بما تصنع من تظن نفسك تتضامن معه وتسعى جاهدًا لتشاركه جنته الفريدة الألوان والخيالات، فأنت مبصر.. مبصر.. مبصر.
يا ويلك إن لم تمتلك بصيرةً مع العيون المبحلقة، فعندما أصاب العمى مدينة كاملة مرة واحدة بقيت سيدة واحدة شاهدة على الإنسان حين يفقد بصره.. وبصيرته، فكل شىء أصبح رخيصًا، والإنسان مستعد تمامًا لكى يتعرى ويأكل الحيوانات النيئة ويمارس الجنس كغريزة بصرف النظر عن الممارس ومكان الممارسة!، كل شىء يصبح رخيصًا بداية من علاقة الإنسان مع ربه إلى التعامل مع مقدسات الجسد وحدود السماء بين حلالها وحرامها، وهذا ملخص أعظم عمل روائى عن العمى لصاحبه البرتغالى ساراماجو وقد أصيب فترة طويلة بالعمى فكتب تجربة هى الأروع حاز بها جائزة نوبل، وتحولت إلى عمل سينمائى عظيم لجوليان مور، ويقال إن ديمقريطيس الذى ابتكر نظرية الذرات فقأ عينيه بيديه، أخرجهما من محجريهما فى إحدى الحدائق وأمام المارة لكى لا يشغل انتباهه مشهد الحديقة ويستطيع رؤية الكون كذرات صغيرة، وقد رقص آل باتشينو التانجو وهو أعمى يشم عطر امرأة فى الفيلم الشهير، فالعمى فقدان البصيرة، والقلوب المضيئة هى التى ترى وتسمع، والروائيون والفلاسفة والحكماء وعلماء النفس أجمعوا على هذا المعنى وصاغوه بطرق مختلفة عبر تاريخ الكتابة والفنون، ولم تبخل علينا الحياة بنماذج متعددة لعميان يبصرون ويصنعون البهجة، وأصبحنا نمتلك عشرات القصص والحكايات عن عظماء وظرفاء وحكماء وموهوبين منحهم الله نور البصيرة وأصبح للعمى بهجة خاصة وطعم من عسل الجنة ورائحة الخوخ، بهجة جعلت «عمار الشريعى» يملأ كفيه بالموسيقى وينثرها علينا زهورًا، وجعلت سيد مكاوى يشرب نغم الأوتار ليروى وجداننا، وجعلت «آل باتشينو» فى فيلم «عطر امرأة» يعيش لحظاتها وهو يرقص كريشة فى الهواء، وألهمت فؤاد حداد ليقول: «يا ريتنى أعمى أشربك باللمس»، فالأعمى يرى ألوانًا خاصة به حددها بورخيس بالبرتقالى والأخضر والأزرق، واستمرت الفكرة عبر عصور الفن والكتابة تنقل بهجة العميان التى رسمها إبراهيم أصلان لشخصية الشيخ حسنى فى رواية «مالك الحزين» ونقلها داود عبدالسيد لفيلم «الكيت كات» وجسدها محمود عبدالعزيز فى واحد من أبدع أدواره السينمائية، وصنع الأدب العربى تراثًا فى تلك المنطقة بكتاب «العميان والبرصان» للجاحظ، لتبقى البهجة مستقرة فى القلوب التى ترى الجمال والخير، وتجاوز العدد مشاهير الأدب والفن والموسيقى والغناء إلى بسطاء يعيشون بيننا ويتمتعون بالنور الداخلى ويصنعون معجزات الوجود، لكن ماذا يفعل الفنان التشكيلى ليصف هذا المعنى وينقله إلى المتلقى، كيف تنطق الريشة وتتكلم التماثيل الصماء بتلك الفلسفة؟!
النحات المصرى الكبير محمود مختار (١٨٩١-١٩٣٤) فعلّها مبكرًا وقدم رائعته «العميان الثلاثة» وضحك الصخر لينقل حالة فنية لثلاثة أصدقاء فى طريق عودتهم من سهرة فنية، حيث يظهر قائدهم فارع الطول يتكشف الطريق بعصاه، بينما «المنشد» يستند إلى رفيق ثالث يبدو قصيرًا وخفيف الظل، وتحدثتْ أبحاث الفن والنحت العالمية منذ عشرينيات القرن الماضى وحتى اليوم عن حركة الرءوس فى هذا العمل البديع وكيف تطل الابتسامة من وجوه الأصدقاء الثلاثة، وعن العبقرية التى استمدها صاحب تمثال «نهضة مصر» من أجداده الفراعنة وحفرياتهم البارزة فى تجسيد العازف الأعمى على جدران المعابد.
ومنذ عشر سنوات تقريبًا، وقف النحات الراحل عبدالوهاب الوشاحى أمام «طه حسين» ليبحث عن النور الذى ملأ قلبه وتربع تحته على قمة الأدب العربى، ورأى النحات ضوء النهار يطل من العينين ويخرج منهما نور، وعكف عامين ونصف العام ليصمم تمثالًا لعميد الأدب العربى يخرج النور من عينيه كلما تعرض للضوء.
وهو المعنى الذى بحث عنه العبقرى بيكاسو وخصص مرحلة من حياته الفنية لتصويره وقدم لوحات «المرحلة الزرقاء» احتفاءً بأصحاب البصيرة الذين لا يجيدون جزّ الرءوس ولا يتقنون غرس الخناجر فى بطون العذارى ولا تصويب الرصاص نحو القلب ولا يشاهدون الابتسامات المزيفة.. المجد لبهجة العمى.