رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكيل والميزان «2-1»


إن محاربة الطفيليات الآدمية أَوْلَى بهذه المحاربة. فما دُمْتَ قادرًا على العمل فيجب أن تعمل، أما غير القادرين من أصحاب الأعذار فهم على العين والرأس، ولهم حَقٌ مكفول فى الدولة وفى أعناق المؤمنين جميعًا، وهذا هو التأمين الذى يكفله الإسلام لكل محتاج. لذلك نقول للغنى الذى يسهم فى سد حاجة الفقير: لا تتأفف، وما أدراك أيها القارئ بالكيل والميزان! دعنا نخض معًا فى هذا الموضوع ولو قليلا.

جاء فى صحيح مسلم أن رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، قال لأبى ذر: «يا أبا ذر إنى أراك ضعيفًا، وإنى أحب لك ما أحب لنفسى، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم». هذا طبعًا يبين أمرين مهمين: حب الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه وإرشاده لهم وللأمة بشأن تولى الأمانة والمسئولية. وعندما نقرأ قوله تعالى: «وأوفوا بالعهد» أى الذى تعاهدون عليه الناس، والعقود التى تعاملونهم بها، فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه، «إن العهد كان مسئولا» أى عنه. وقوله تعالى: «وأوفوا الكيل إذا كلتم» أى من غير تطفيف، «ولا تبخسوا الناس أشياءهم». وهذا ليس فقط عند الشراء، بل حتى فى الكلام عن الناس، وعند القضاء بينهم، حتى يأخذ كل ذى حق حقه ويسود العدل بين الناس. أما قوله تعالى «وزنوا بالقسطاس المستقيم» وهو الميزان. قال مجاهد: هو العدل، أى الذى لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ولا اضطراب. «ذلك خير»: أى لكم فى معاشكم ومعادكم، ولهذا قال تعالى: «وأحسن تأويلا» أى مآلاً ومنقلبًا فى آخرتكم، قال قتادة: أى خير ثوابا وأحسن عاقبة، وكان ابن عباس يقول: يا معشر الموالى إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم: هذا المكيال، وهذا الميزان.

وفى تفسير الطبرى نقرأ ما يلى: الْقَوْل فِى تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى «وَأَوْفُوا الْكَيْل إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيم» يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وقَضَى أَنْ «أَوْفُوا الْكَيْل» لِلنَّاسِ «إِذَا كِلْتُمْ» لَهُمْ حُقُوقهمْ قَبْلكُمْ. وَلَا تَبْخَسُوهُمْ «وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيم» يَقُول: وَقَضَى أَنْ زِنُوا أَيْضًا إِذَا وَزَنْتُمْ لَهُمْ بِالْمِيزَانِ الْمُسْتَقِيم. وَهُوَ الْعَدْل الَّذِى لَا اِعْوِجَاج فِيهِ. وَلَا دَغَل. وَلَا خَدِيعَة.

وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْمِيزَان صَغُرَ أَوْ كَبُرَ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: الْقِسْطَاس بِكَسْرِ الْقَاف. وَالْقُسْطَاس بِضَمِّهَا. مِثْل الْقِرْطَاس وَالْقُرْطَاس، وَبِالْكَسْرِ يَقْرَأ عَامَّة قُرَّاء أَهْل الْكُوفَة. وَبِالضَّمِّ يَقْرَأ عَامَّة قُرَّاء أَهْل الْمَدِينَة وَالْبَصْرَة. وَقَدْ قَرَأَ بِهِ أَيْضًا بَعْض قُرَّاء الْكُوفِيِّينَ. وَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئ فَمُصِيب. لِأَنَّهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ. وَقِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِى قُرَّاء الْأَمْصَار. الْقَوْل فِى تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى «وَأَوْفُوا الْكَيْل إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيم» يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وقَضَى أَنْ «أَوْفُوا الْكَيْل» لِلنَّاسِ «إِذَا كِلْتُمْ» لَهُمْ حُقُوقهمْ قَبْلكُمْ. وَلَا تَبْخَسُوهُمْ «وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيم» يَقُول: وَقَضَى أَنْ زِنُوا أَيْضًا إِذَا وَزَنْتُمْ لَهُمْ بِالْمِيزَانِ الْمُسْتَقِيم. وَهُوَ الْعَدْل الَّذِى لَا اِعْوِجَاج فِيهِ. وَلَا دَغَل. وَلَا خَدِيعَة.

وفى تفسير القرطبى نقرأ عن هذا الأمر الخطير: فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى «وأوفوا الكيل إذا كلتم» تقدم الكلام فيه أيضا فى الأنعام. وتقتضى هذه الآية أن الكيل على البائع، والقسطاس «بضم القاف وكسرها»: الميزان بلغة الروم، قاله ابن عزيز. وقال الزجاج: القسطاس: الميزان صغيرا كان أو كبيرا. وقال مجاهد: القسطاس العدل، وكان يقول: هى لغة رومية، وكأن الناس قيل لهم: زنوا بمعدلة فى وزنكم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم فى رواية أبى بكر «القسطاس» بضم القاف. وحمزة والكسائى وحفص عن عاصم «بكسر القاف» وهما لغتان. الثانية: قوله تعالى «ذلك خير»: أى وفاء الكيل وإقامة الوزن خير عند ربك وأبرك. «وأحسن تأويلا»: أى عاقبة. قال الحسن: ذكر لنا أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله فى عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك».

أما فى تفسير الخواطر الجميلة التى جاء بها الشيخ محمد متولى الشعراوى فإننا نقرأ: تنتقل بنا الآيات إلى قضية من أخطر قضايا المجتمع، هذه القضية هى التى تضمن للإنسان نتيجة عرقه وثمار جهده وتعبه فى الحياة، ويطمئن أنها عائدة عليه لا على هذه الطبقة الطفيلية المتسلطة التى تريد أن تعيش على أكتاف الآخرين وتتغذى على دمائهم. وبذلك ييأس الكسول الخامل، ويعلم أنه ليس له مكان فى مجتمع عامل نشيط، وأنه إنْ تمادى فى خموله فلن يجد لقمة العيش فيأخذ من ذلك دافعاً للعمل، وبذلك تزداد طاقة العمل ويَرْقى المجتمع ويسعد أفراده.

صحيح فى المجتمع الإيمانى إيثار، لكنه الإيثار الإيجابى النابع من الفرد ذاته، أما الخطف والسرقة والاختلاس والغَصب فلا مجال لها فى هذا المجتمع؛ لأنه يريد لحركة الحياة أن تستوعب الجميع، فلا يتطفل أحد على أحد. وإن كنا نحارب الأمراض الطفيلية التى تتغذى على دماء الإنسان، تضجر إنْ أخذنا منك اليوم؛ لأن الطاقة التى عملت بها واجتهدتَ وجمعتَ هذا المال طاقة وقدرة ليست ذاتية فيك، بل هى هِبَة من الله يمكن أنْ تُنزعَ منك فى أى وقت، وتتبدَّل قوتك ضعفاً وغِنَاك حاجة، فإنْ حدث لك ذلك فسوف نعطيك ونُؤمِّن لك مستقبلك.

لذلك على الإنسان أن يعيش فى الحياة إيجابيا، يعمل ويكدح ويُسهِم فى رُقىّ الحياة وإثرائها، ولا يرضى لنفسه التقاعس والخمول؛ لأن المجتمع الإيمانى لا يُسوِّى بين العامل والقاعد، ولا بين النشيط والمتكاسل. وهَبْ أن شقيقين اقتسما ميراثًا بينهما بالتساوى، الأول عاش فى ماله باقتصاد وأمانة وسَعَى فيه بجدّ وعمل على تنميته، أما الآخر فكان مُسْرفًا مُنحرفًا بدَّد كل ما يملك وقعد مُتحسّرًا على ما مضى، فلا يجوز أنْ نُسوِّى بين هذا وذاك، أو نأخذ من الأول لنُعطى للآخر، إياك أن تفعل هذا لأن الإنسان وكذلك الدول إذا أخذتْ ما ليس لها حمّلها الله ما ليس عليها. وللحديث صلة.. وبالله التوفيق.