رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ»


يتحدث القرآن الكريم عن مسئوليات الإنسان فى ضوء النعم الكبيرة التى أنعم الله تعالى بها على المخلوق استحق تلك النعم أو لم يستحقها. وجاءت العديد من التفسيرات توضح المعنى الكريم ، بل إن بعض الباحثين اعتبرها من القواعد القرآنية. ومن هؤلاء الدكتور عمر المقبل. يقول الرجل: «فهذه مشكاة أخرى من موضوعنا الموسوم بـ: «قواعد قرآنية»، نقف فيها مع قاعدة من قواعد التعامل مع النفس، ووسيلة من وسائل علاجها لتنعم بالأنس، وهى مع هاتيك سلّمٌ لتترقى فى مراقى التزكية، فإن الله تعالى قد أقسم أحد عشر قسماً فى سورة الشمس على هذا المعنى العظيم، فقال: «قد أفلح من زكاها»، تلكم القاعدة هى قول الله تعالى: «بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ»! والمعنى: أن الإنسان وإن حاول أن يجادل أو يمارى عن أفعاله و أقواله التى يعلم من نفسه بطلانها أو خطأها، واعتذر عن أخطاء نفسه باعتذارات؛ فهو يعرف تماماً ما قاله وما فعله، ولو حاول أن يستر نفسه أمام الناس، أو يلقى الاعتذارات، فلا أحد أبصر ولا أعرف بما فى نفسه من نفسه.

وتأمل ـ أيها المبارك ـ كيف جاء التعبير بقوله: «بصيرة» دون غيرها من الألفاظ؛ لأن البصيرة متضمنة معنى الوضوح والحجة، كما يقال للإنسان: أنت حجة على نفسك! والله أعلم.

فلربما بلغ بعضَ الناس نصٌ واضح محكمٌ، لم يختلف العلماء فى دلالته على إيجاب أو تحريم، أو تكون نفسه اطمأنت إلى حكمٍ ما، ومع هذا تجد البعض يقع فى نفسه حرجٌ! ويحاول أن يجد مدفعاً لهذا النص أو ذاك لأنه لم يوافق هواه!» يقول ابن القيم رحمه الله: «فسبحان الله! كم من حزازة فى نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد؟ وكم من حرارة فى أكبادهم منها، وكم من شجى فى حلوقهم منها ومن موردها؟». ولا ينفع الإنسان أن يحاول دفع النصوص بالصدر، فالإنسان على نفسه بصيرة، وشأن المؤمن أن يكون كما قال ربنا تعالى: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا».

ويقول ابن الجوزي، فى كتابه الماتع الذائع الرائع «صيد الخاطر» يقول رحمه الله ـ وهو يحكى مشاعر إنسان يعيش هذه الحال مع النصوص الشرعية: «قدرتُ مرة على لذة ظاهرها التحريم، وتحتمل الإباحة، إذ الأمر فيها متردد، فجاهدت النفس فقالت: أنت ما تقدر فلهذا تترك! فقارِبِ المقدورَ عليه، فإذا تمكنتَ فتركتَ، كنت تاركاً حقيقة! ففعلتُ وتركتُ، ثم عاودت مرة أخرى فى تأويل أرتنى فيه نفسى الجواز ـ وإن كان الأمر يحتمل ـ فلما وافقتها أثّر ذلك ظلمة فى قلبي؛ لخوفى أن يكون الأمر محرماً، فرأيت أنها تارةً تقوى عليّ بالترخص والتأويل، وتارةً أقوى عليها بالمجاهدة والامتناع، فإذا ترخصتُ لم آمن أن يكون ذلك الأمر محظوراً، ثم أرى عاجلاً تأثير ذلك الفعل فى القلب، فلما لم آمن عليها بالتأويل،... إلى أن قال رحمه الله: فأجود الأشياء قطع أسباب الفتن، وترك الترخص فيما يجوز إذا كان حاملاً ومؤدياً إلى ما لا يجوز». ويقول الإمام الشافعى: بلغنى أن عبدالملك بن مروان قال للحجاج بن يوسف: ما من أحد إلا وهو عارف بعيوب نفسه، فعب نفسك ولا تخبىء منها شيئاً، ولهذا يقول أحد السلف: أنفع الصدق أن تقر لله بعيوب نفسك.«بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ» فإنه يعتذر عن نفسه بأعذار ويجادل عنها، وهو يبصرها بخلاف ذلك. يقول الدكتور المقبل «ومن دلالات هذه القاعدة الشريفة: أن يسعى المرء إلى التفتيش عن عيوبه، وأن يسعى فى التخلص منها قدر الطاقة، فإن هذا نوع من جهاد النفس المحمود، وأن لا يركن الإنسان إلى ما فيه من عيوب أو أخطاء، بحجة أنه نشأ على هذا الخلق أو ذاك، أو اعتاد عليه، فإنه لا أحد من الناس لا أعلم منك بنفسك وعيوبها وأخطائها وذنوبها، وما تسره من أخلاق، أو تضمره من خفايا النوايا». وإليك هذا النموذج المشرق من حياة العلامة ابن حزم:، حيث يقول ـ فى تقرير هذا المعنى: «كانت فى عيوب، فلم أزل بالرياضة، واطلاعى على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين ـ فى الأخلاق وفى آداب النفس ـ أعانى مداواتها، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها، ليتعظ بذلك متعظ يوماً إن شاء الله. ثم ساق الإمام ابن حزم جملة من العيوب التى كانت فيه، وكيف حاول التغلب عليها، ومقدار ما نجح فيه نجاحاً تاماً، وما نجح فيه نجاحاً نسبياً. أن الإنسان ما دام يدرك أنه أعلم بنفسه من غيره، وجب عليه أن يتفطن أن الناس قد يمدحونه فى يومٍ من الأيام، بل قد يُفرطون فى ذلك، وفى المقابل قد يسمع يوماً من الأيام من يضع من قدره بمنسم الافتراء، أو يخفض من شأنه، وربما ضُرِّس بأنياب الظلم والبغى، فمن عرف نفسه: لم يغتر بمدحه بما ليس فيه، ولم يتضرر بقدحه بما ليس فيه، بل يفيد من ذلك بتصحيح ما فيه من أخطاء وزلات، ويسعى لتكميل نفسه بأنواع الكمالات البشرية قدر المستطاع. وخاتمة هذه المجالات التى تناسب حديثنا هنا ـ ولعله من أشرفها :- أن من أكبر ثمرات البصيرة بالنفس، أن يوفق الإنسان إلى الاعتراف بالذنب، والخطأ، وهذا مقام الأنبياء والصديقين والصالحين. وتأمل فى قول أبوينا ـ حين أكلا من الشجرة ـ: «قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ »، ثم من بعدهما نوح، وموسى،فى سلسلة متتابعة كان من آخرها: ما أثبته القرآن عن أولئك المنافقين الذين اعترفوا بذنوبهم فسلموا وتيب عليهم، قال تعالى: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «فعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين» أسأل الله تعالى أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يقينا شحها. ومع توديعة الختام أهمس: أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه *** عنك، فإن جحودَ الذنب ذنبانِ.. وللحديث صلة. وبالله التوفيق.