رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيرات الدولية والإقليمية وتأثيراتها



ذكرت فى المقال السابق أن تـفعـيـل الاتفاق النووى الإيرانى يُعـتبر أحد أهم المتغيـرات المؤثـرة على المعادلتيـن الدولية والإقليمية، فـقد وصفـه الرئيس روحانى بأنـه يُمثـل صفحة ذهـبيـة فى تاريخ إيران، ووصفه الرئيس الأمريكى بـ«التسوية التاريخية»التى قطعت كل السبل أمام إيران لإنتاج وامتلاك الرادع النووى إلى الأبـد، وهو قـول مغـلوط، فإن لم تكن طهران امتلكت الرادع النووى فعلاً، فقـد امتلكت على الأقـل تقنية وقدرات تصنيعه، وأشرت إلى أن هـذه التسوية قد أحدثت قلقاً لدى القـوى الفاعـلـة فى الـنسـق الإقـليـمى لمنطقة الشرق الأوسط عـنـد توقيعها وتعاظم هذا القلق مع تفعـيـلها، خاصة أن هذه القوى تعـتبـر إيـران هى الرابح الأكبـر إن لم تكن الرابح الوحيد من تفعيـلها، وأبرزت المكاسب السياسية والاقتصادية التى ربحتها إيران واليوم أستكمل المكاسب العسكرية.

فقد ربحت إيران الإبقاء على البنية الأساسية لجميع منشآتها النووية، سواء العاملة فى تخصيب اليورانيوم، أو تلك المنتجة للماء الثقيل «مفاعل آراك»، الأمر الذى سيُؤدى إلى تعظيم قدراتها على امتلاك الرادع النووى مستقبلاً إن لم تكن امتلكته فعلا، كما احتفظت بالبنية التحتية للقاعـدة الصناعية الثقيلة للمنتجات الحربية التى تلبى جزءاً من احتياجاتها الأساسية، فقد سمح لها الاتفاق بإنتاج جميع أنواع الصواريخ البالستية بما فى ذلك الصواريخ بعـيـدة المدى، واقتصر الحظر فـقـط على إنتاج الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية، مما سيؤدى إلى اختلال التوازن الاستراتيجى أولاً، وجر المنطقة إلى سباق تسلح نووى مدمر ثانياً، كما سيُشكل بُعـداً ضاغطاً ربما يكون أشد خطراً وأعـمق أثراً على الأمن الإقليمى فى المنطقة ثالثا، خاصة على الأمن الجماعى العـربى، إذ سيعـزز هذا الاتفاق الدور الإيرانى ويكرس لتدخله الطاغى فى شئون نسقها الإقليمى، وهو الدور الداعم لبقاء الأسد فى سوريا، والمعـوق للاستقرار السياسى فى لبنان، والمسيطر على العـراق، والمثيـر لقلق السعـودية فى اليمن، والداعم للبيئة الحاضنة للجماعات الإرهابية على حدود مصر، ويُمهـد لتحقيق حلمها الدائم لإحياء الإمبراطورية الفارسية تحت رايتها الشيعـية رابعاً وهو الأهم، وهو الحلم الذى كان يُراودها منـذ الفتح الإسلامى حتى الآن، وهو ما عـبرعنه «على يونسى» مستشار الرئيس الإيرانى روحانى فى منتدى «الهوية الإيرانية» الذى انعـقـد فى طهران فى العام الماضى «بأن إيران قـد أصبحت بالفعـل إمبراطورية كما كانت على مر تاريخها وعاصمتها بغـداد، وهى غـيـر قابلة للتجزئـة مرة أخرى!»، ويُعـبـر هذا التصريح ذو الأبعاد الاستراتيجية عن محتوى المنظور الجيوبوليتيكى الإيرانى فيما يتعـلق بمفهوم الهيمنة، ولعـل المناورة التى أجرتها إيران فى الأيام الأخيرة من ينايـر الماضى تحت اسم «الولاية 94»، وشارك فيها بعض القطع البحرية المقاتلة واللوجيستية «مدمرات وفرقاطات وقاذفات الصواريخ وغواصتين» تُعبـرعن نوايا الهيمنة على المسطح المائى للخليج العربى الذى تُصـر إيران على تسميته بالخليج الفارسى، فبالرغم من تصريحات الأدميرال «حبيب الله سيارى» قائـد القوات البحرية الإيرانية إلى أن الهدف من هذه المناورة هو الوقوف على مدى كفاءة القدرات القتالية للبحرية الإيرانية ومدى قدرتها على تأمين المجال الحيوى لإيران وصيانة أمنها القومى، إلآ أن المنطقة التى أجريت فيها المناورة تكشف عن الهدف الحقيقى لها، حيث أُجريت فى المنطقة بين مضيق هرمـز ودائرة عرض 10 شمالاً فى المحيط الهندى، على مساحة 3 ملايين كم2 تقريباً، وتشمل منطقة شرق مضيق هرمز، وبحر عمان والمياه الدولية فى خليج عـدن، أى أنها تشمل جميع الدول الخليجية، وتقترب كثيراً من باب المندب لتلتحم مع قاعدتها البحرية فى إحدى جزر أرخبيل دهلك بإريتريا، وهذه المنطقة تنطبـق على ما يُسمى بـ«الهلال الشيعى» بعـد أن سيطرت على العراق وسوريا ولبنان واليمن والذى يُحيط بالسعـودية، وهو ما يكشف حقيقة المحتوى الفكرى للمنظور الجيوبوليتيكى الإيرانى، وهـو الهيمنة على الخليج وباب المنـدب، فمن يُسيطر على مياه هذا المسطح المائى لن يلبث طويلاً حتى يُسيطر على الدول المطلة عليه، وهـو ما يكشف أيضاً الأهمية الجيوستراتيجية الكبرى للعراق بالنسبة لإيـران، فالعراقيشاركها السيطرة عـلى الخليج العـربى ومضيق هـرمز وخليج عـمان جغرافيا، ويُمثل الخط الفاصل بين القوميتين العـربية والفارسية حضارياً، وتعتـبـره إيـران جـزءاً منها تاريخياً، ويُمثـل سهـل الهضـبة الإيرانية، حيث تتكامل مـنـتجاته الزراعـية مع منتجات الهضـبة، ويمتلك مخزونـاً هائلاً من الاحتياطى المؤكد من خام البترول يُؤهلها مع مخزونها لأن تصبح قوة اقتصاديـة هائلة، كما يحتضن عـتبات المراقـد المقـدسة التى يحج إليها الشيعة الإثنى عـشريـة. ونستكمل تأثير باقى المتغيرات فى الأسبوع المقبل بإذن الله.

 أستاذ العلوم السياسية ــ جامعة بورسعيد