رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيـرات الدولية والإقليمية.. وأردوغان بين هوس السـلطة ووهم الخلافة


ذكرت فى المقال السابق أن الذى يظن أن التعاون بين تركيا وإسرائيل قـد انقطع يوماً فهو واهم، ومخطئ من يتصور صدق دعـوة أردوغان لتطبيع العلاقة مع إسرائيل، بل إنه ازداد تماسكاً وارتباطاً فى مجالاته الأمنية والعسكرية والاقتصادية، حتى فى فترات التوتـر المفتعل فى علاقاتهما «أزمة الأتراك الذين قتلوا على متن السفينة مرمرة، وأزمة انسحاب أردوغان من منتدى دافـوس وسط تصفيق الحاضرين»، فقد استطاع أردوغان توظيفهما لصالحه، حيث استُقبل استقـبال الفاتحين فى الأولى، فمهدت لنجاح حزبه فى انتخابات 2009، ومهدت الثانية لنجاحه كرئيس لتركيا فى 2014 بعد أن جعـلته بطلاً غازيـاً وبطلاً قومياً.

وقد كشف أوباما عـن دوره فى السيناريو الهابط لزيادة أواصر التعاون بين تركيا وإسرائيل، حين أعـلن عن المكالمة التليفونية التى قدم فيها نتنياهو اعـتذار إسرائيل لتركيا عـن مقـتـل الأتراك على متن السفينة مرمرة، فقبل أردوغان هذا الاعـتـذار على الفور بعـد أن أظهـر تشدداً وتمنعاً كبيراً، وأبلغـه استعـداد إسرائيل لتقديم تعـويضات لأسر الضحايا، وتعـمدت الولايات المتحدة توسيع هذا التعـاون خاصة فى مجالاته الأمنية والعسكرية والاقتصادية، فسمحت لتركيا بإنتاج الطائرة C F16 حتى أصبحت الدولة التى تمتلك أكبر عـدد من هذا النوع من الطائرات فى العالم بعـد الولايات المتحدة، وسمحت لها بتصدير فائض إنتاجها للدول الحليفة والصديقة، وأمدتها بالأجهزة والمعـدات اللازمة لصيانة طائرات هذه الدول فى مصانعها، شريطة أن تقوم إسرائيل بتصنيع المعـدات الإلكترونية المعـقـدة Avionics» لهذه الطائرات حتى تضمن استمرار التعاون التركى- الإسرائيلى، كما وضعـت الولايات المتحدة خطط تطوير القوات المسلحة التركية باعـتبارها القوة الثانية بعـدها فى حلـف الناتو، وربطت هذه الخطط بتكنولوجيا التصنيع الإسرائيلى بحكم التراخيص الصادرة من شركتى لوكهيد وبوينج، خاصة لطائرات الإواكس AWACS Air Born Warning And Control System» «نظام القيادة والسيطرة المحمول جواً» التى عـقـدت تركيا صفقة ضخمة منها، إذ يعـتبر هذا النظام مهماً جداً لمنظومة الأمن القومى التركى، حيث يرتبط بالشبكة الإلكترونية المضادة للصواريخ البالستية الموجهة ضد قـواعـدها الجـويـة الرئيسية «كورتشك ـ إنجرليك» المجهزتين لاستقبال جميع أنواع طائرات حلف الناتو، واللتين تستخدمهما قـوات الحلـف فى المناورات السنوية المعـروفة باسم «نسر الأناضول» والتى تشارك فيها إسرائيل بصفة أساسية، وهو ما يعـنى من الزاوية العسكرية أن إسرائيل تتمتع بما يتمتع به حلف الناتو من حيث استخدامات القواعد الجوية التركية، كما يشمل التعاون العسكرى بينهما كل مجالات التصنيع الحربى لكل ما تنتجه الدولتان من معـدات خاصة دبابات القتال الرئيسية، وهو الأمر الذى يؤدى إلى إحداث التكامل بينهما، ويعـمل على ترسيخ قاعـدة الصناعات الحربية التى يمكنها تلبية الجزء الأعـظم من احتياجاتهما، وهو ما يُحقق هذه الأهداف السياسية والاستراتيجية الأمريكية .

وبالرغم من أن الولايات المتحدة تسعى إلى تعـظيم قدرات تركيا العـسكرية والأمنية، باعتبارها القوة العسكرية الثانية فى حلف الناتو، وبالرغم من أنها تتحمل أعـباء الدفاع عن الحلفاء، إلا أن هؤلاء الحلفاء يرفضون قبولها عـضواً طبيعـياً فى اتحادهم، ولم يستوعـب الأتراك الأسباب الحقيقية التى تحول دون انضمامهم لهذا الاتحاد حتى الآن، إذ يكمن السبب الأول فى الاختلاف الجذرى بين نسقها القيمى والأنساق القيميـة لدول غـرب أوروبا عـرقياً ودينياً وثقافياً، أما السبب الثانى فهـو الاختلافات بين نسقها الاجتماعـى والأنساق الاجتماعية لدول الاتحاد خاصة تلك التى تتعلق بمعدلات النمو السكانى، إذ يبلغ معـدل النمو فى تركيا عشرة أضعاف النمو السكانى لدول الاتحاد، الأمر الذى سيؤدى إلى اختلال الأنساق الاجتماعـية الأوروبية، وهو ما أدى إلى قيام تركيا إلى إحداث تحولات ضخمة فى نسقيها القيمى والاجتماعى، إلى حد اعتناق العـلمانية المفرطة دون تعـقـل أو إنضباط، ودون تفريق بين التغـريب والتحديث، فأحدث ذلك تناقضاً كبيرا فى موقفها، من أجل إرضاء الدول الأوروبية لقبولها عضواً طبيعـياً فى إتحادهم، إلا أن كل ذلك ذهب هباءاً منثوراً، إذ لم يدرك أردوغان حجم المتناقضات التى حدثت فى المعادلة الاستراتيجية التركية من جراء هذه التحولات، حيث أصبحت تركيا عاجزة عن حسم هويتها، تتظاهر بالتمسك بمبادئ الشريعة الإسلامية، لكنها لا تستطيع إخفاء مظاهـر عـلمانيتها المفرطة، تريـد الانتماء إلى الغـرب لكنها لا تستطيع أن تنسلخ من الشرق، تحاكى حضارة الغـرب لكنها لا تتخلى عـن ثقافة الشرق، فلا أصبحت شرقية ولا أضحت غـربيـة، ولا أمست إسلامية، ولا حتى باتت علمانية، ففقـدت هويتها بين هوس السلـطة ووهم الخلافة التى يتطلع إليهما أردوغان، وربما ستظل تركيا كذلك دوماً، ما لم يتخل أردوغان عن هوسه ووهمه ويدرك أهميـة التوجه إلى الشرق الذى يُمثل العـمق الجغـرافى والتاريخى والثقافى والقيمى الطبيعى لبلاده.