رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التراجع الإيرانى.. ولحظة الحسم


يبدو لى أن الملف النووى الإيرانى سيظل دوما يحمل فى طياته كثيرا من المخاطر الداهمة، ليس فقط عـلى منطقة الخليج العـربى، بل أيضا على المنطقة بأسرها، فهل يدرك العرب ذلك.

أعـلن مديـر مشروع ويـسكـونـسـن لـلـتـحـكـم فى الأسلحـة الـنـوويـة الـمسـئول عـن متابعة وتعـقـب انـتـشـار الأسلحـة الـنـوويـة، أن إيـران قـد أنـتـجــت بالـفعـل وقـودا نوويـا مـنـخـفـض الـتخصـيـب بـنسبة (20%) يـكـفـى لإنتاج عـدد (2) قـنـبـلـة نـووية فى حالـة زيـادة نـسـبـة الـتخـصيـب إلى (90%)، وقـد بـدأت إيـران بالفعـل عـمليـة رفـع نـسـبـة الـتخـصيـب مـنـذ فـبـرايـر 2010، فإذا سلمنا بصحة ما جاء بهذا التقرير، وأن إيران قد بدأت بالفعـل فى رفع نسبة التخصيب منذ هذا التاريخ، فربما تكون إيران قد أنهت الآن هذه العـملية، فهل يمكن أن يكون ذلك هو السبب الحقيقى لتأجج الصراع بين الولايات المتحدة- إسرائيل وإيران؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يحتدم الصراع بينهم عـندما أعـلن شاه إيـران عـن بـدء هـذا البرنامج فى ستينيات القرن الماضى؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فما السبب الحقيقى لاحتدام هذا الصراع الآن؟ وهل صحيح أن إيران قد تراجعـت عن طموحاتها لامتلاك الرادع النووى كما صرح إيهود باراك فى حواره مع جريدة «ديلى تلجراف البريطانية»؟ وهل قررت إيران فعلا استخدام ما يزيـد عـلى ثلث ما لديها من يورانيوم متوسط التخصيب فى أغراض سلمية؟ وهـل كانت عـملية قصف مجمع «اليرموك» فى الخرطوم بواسطة القوات الجوية الإسرائيلية سببا لهذا التراجع؟

وقبل أن نجيب عن هذا الكم من التساؤلات ينبغى توضيح ثلاثة اعـتبارات مهمة تحكم تفاعل العلاقات فى هذه المنطقة، فالذى يتعـين أن يوضع فى جميع الحسابات الاستراتيجية أولا هو المحتوى الفكرى الاستراتيجى لإيران، حيث تتطلع إيران إلى تحقيق حلمها الدائم للسيـطـرة عـلى مـنـطـقـة الـخليج لإحياء الإمبراطورية الفارسية تحت الراية الشيعـية، وتسعـى إيران لتحقيق هذا الحلم ببناء قوة عسكرية ذات برامج تسليحية هائلة تفوق متطلباتها الدفاعـية، كما تصر على الامتلاك الفعـلى للرادع الـنـووى عـن طريق التصنيع المحلى، وقطعـت بالفعل شوطا طويلا فى تحقيق ذلك، أما الاعـتبار الثانى فهو ضرورة الاقتناع بعـدم وجود فارق جوهرى بين تكنولوجيا امتلاك الطاقة النووية للأغـراض السلمية، وبين تكنولوجيا تصنيع الرادع النووى، فمن يمتلك تكنولوجيا التصنيع للأغراض السلمية لن يلبث طويلا حتى يمتلك الرادع النووى، أما ثالث هذه الاعـتبارات فهـو أن الامتلاك الفعـلى للرادع النووى قد يؤدى إلى تحقيق الاستقرار فى المنطقة من خلال توازن الرعـب الذى قد ينشأ، وهى حالة تشبه إلى حد كبير تلك الحالة التى نشأت بين الهند وباكستان بعـدما امتلكت الأخيرة الرادع النووى وأدت إلى استقرار شبه القارة الهندية، وعـلى ما يبدو فإن تـوازن الرعـب قد أصبح قانونا مقبولا لتحقيق الاستقرار فى عـالم العـلاقـات الـدولـيـة التى تحكمها القـوة غالبا ويحكمها القانون الدولى والأخلاق نادرا.

وبالتحليل المتعـمق للاعـتبارات الثلاثة يمكن أن نتوصل إلى السلوك السياسى السائد فى المنطقة، إذ يمكن ملاحظة مدى تعارض الاعـتبار الأول مع أهـداف واستراتيجية كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، فالولايات المتحدة تسعى إلى عـدم قيام قـوة إقليمية فى المنطقة تقف حائلا دون تحقيق مصالحها وفقا لمبدأ كارتر الذى أعـلنه أمام الكونجرس بأن «أى محاولة من أى قوة داخلية أو خارجية للحصول على مركز مهيمن فى منطقة الخليج، سوف يـعـتـبـر من وجهة نظر الولايات المتحدة بمثابة تـعـد على المصلحة العليا لها، وسوف يتم ردعـه بجميع الوسائل المتاحة بما فى ذلك القوة العسكرية»، كما يتعارض مع المنظور الاستراتيجى لإسرائيل الـقـائـم على أن ضمان أمنها وبقائها وصيـانة سيـادتـها، لابـد أن يـتحقق من خلال التـفـوق الشامل على جميع دول المنطقة، وتمسكها بسلوكها التسليحى القائـم على ضرورة انفرادها بامتلاك الرادع النووى دون ســواها، والحفاظ عـلى هذا التفوق فى مجالات التسليح التقليدى وفوق التقليدى، وهو ما يبرر لنا لماذا قامت إسرائيل بتدمير مجمع اليرموك بالخرطوم لصناعـة الصواريخ متوسطة وبعـيدة المدى لصالح إيران- على حد زعـمها-، الذى من شأنه أن يؤدى إلى تحسين مستوى كفاءة وتسليح القوات المسلحة الإيرانية، كما يحمل فى طياته مخاطر هائلة لإسرائيل، حيث تتواجد فى منطقة تتضاءل فيها المسافات إلى الحد الذى لا يمكن معـه الفصل بينها وبين دول نطاقها المباشر، خاصة إذا تسربت هذه الصواريخ الإيرانية إلى سوريا وحزب الله، وهو ما يبرز لنا أيضا المحتوى الفكرى للاستراتيجية الإسرائيلية فى الكلمة التى ألقاها إيهود باراك- وزيرالدفاع الإسرائيلى- فى المركز البريطانى الإسرائيلى للاتصالات والأبحاث « بأن إسرائيل تعـيش فى منطقة قاسية لا يرحم فيها القوى الضعيف ولا يمنح فرصة ولو لثانية واحدة لأولئك الذين لا يستطيعـون حماية أنفسهم، ولذلك يتعـين عـلى إسرائيل أن تعـتمد عـلى نفسها لمواجهة هذا الخطر الداهم المتمثل فى سعى إيران الدءوب لامتلاك الرادع النووى، والآن قد جاءت لحظة الحسم وعلى إسرائيل أن تقرر منذ الآن ما إذا كانت ستوجه ضربة عسكرية ضد إيران فى العام القادم أم لا، فنحن نعـلم أن إيـران مصممة على امتلاك الرادع النووى، ونحن أيضا مصممون عـلى منع إيران من أن تكون قوة نووية، وكل الخيارات مطروحة عـلى الطاولة، وأن إسرائيل تحتفظ بحقها فى التحرك منفردة عـندما يتعلق الأمر بمصالحنا الأمنية، وبالتالى لا يمكن أن نوكل مستقبل إسرائيل ومسئولية اتخاذ مثل هذا القرار لآخرين، حتى إذا كان هؤلاء الآخرون هم أكثر حلفائنا تمتعا بثقتنا، ومن غـير المقبول أن تعـتمد إسرائيل على تعهدات الولايات المتحدة بمنع إيران من أن تكون قوة إقليمية نووية».

هكذا تتشكك إسرائيل فى نوايا أقرب حلفائها بالرغم من إدراكها الكامل بأن الولايات المتحدة تصون أمنها وتضمن بقاءها وتحفظ سيادتها، وتتبنى جميع مواقفها السياسية والعـسكرية بل والاجتماعـية، لكنها الطبيعة الحذرة المتشككة لإسرائيل، بل إن هذه الطبيعة الإسرائيلية الحذرة والمتشككة قـد أوجدت لنفسها رؤيـة استراتيجـية جـديـدة، ذلك أن جـيـل الـصـابــرا (أى الذين ولدوا فى إسرائيل وتحملوا المشاق كما يتحمل الصبار قسوة الصحراء)، والذى تسلم المسئولية من جيل المؤسسين، قـد أدرك أن أسس ومرتكزات الاستراتيجية الأمريكية فى الـمـنطـقـة قـد تتغـيـر تـبـعـا لأى مـتـغـيـرات إقـلـيـمـيـة أو دولـيـة قـد تـنشأ، وقـد أفرزت هـذه الرؤيـة الجديـدة مبدأيـن مهمين، الأول هو ضرورة اعـتماد إسرائيل على قدرتها الذاتية بـما يضمن صيانة أمنها وبقائها دون الاعـتماد على الغـيـر، ويمكن فى هذا السياق التذكيـر بما أعـلنه نـتـنياهـو فى خطابه أمام الكونجرس فى 10 يوليو 1996 « بأن إسرائيل قد بلغـت سن الرشـد، ونضجت بما فيه الكفاية لكى تبدأ مرحلة الاعـتـماد على الذات» أما المبدأ الثانى، فهو ضرورة البحث عـن قـوة عـظمى صاعـدة تكون بديـلا عن الولايات المتحـدة فى حالة أفـول نجمـها، ولذلك اتجهت لـلـتعـاون مع الـصـيـن أقرب الوحدات السياسية فى النسق الدولى تحقيقا لتوازن المكانة، وأقدرها اعـتلاءً لهـرم الـنـظـام الـدولى لمشاركة الولايات الـمـتـحـدة فى قـمتـه.

أما الرسالة التى تريد إسرائيل توجيهها إلى جميع القوى الإقليمية عـلى نحو عام، وإلى إيـران عـلى نحو خاص، من تدمير مجمع اليرموك لتصنيع الأسلحة والصواريخ بالخرطوم، فهى أنها قد قفزت إلى مصاف القوى العـظمى وأنها قادرة عـلى تطويـر مدى العـمل الاستراتيجى لقواتها المسلحة، بما يمكنها من الوصول إلى أى مكان يمكن أن يتهدد منه أمنها ومصالحها بما فى ذلك مفاعل إيران النووى، وكذلك يبدو لى أن الملف النووى الإيرانى سيظل دوما يحمل فى طياته كثيرا من المخاطر الداهمة، ليس فقط عـلى منطقة الخليج العـربى، بل أيضا على المنطقة بأسرها، فهل يدرك العرب ذلك؟

■ أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.