رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«بورسعيد» انتصار الأجداد.. هزيمة الأحفاد!


صباح 5 نوفمبر 1956.. احترق حى المناخ بالكامل وتحول إلى كرة من النيران الحمراء تعلوها سحابة سوداء..خرج أبناء المدينة إلى الشوارع والحوارى يحملون البنادق اتجهوا صوب الحى المحترق.. خلف النيران كانت معركة تدور بين الفدائيين وجنود المظلات الإنجليز.. تم إبادة موجة المظلات الأولى.. وهى تضم أكثر من 40 ضابطاً وجندياً.. كانت المعركة بقيادة «مهران».. دكت البوارج الحربية من البحر كل شاطئ المدينة.. ارتفعت النيران لتحجب عنا البحر المتوسط نفسه! أصبحت السماء تحتوى على كل أنواع الطائرات تقصف المدينة.. «بالنابالم» الحارق كل اتجاهات المدينة الأربعة.. ارتفعت النيران من مستودعات البترول.. افترشت جثامين الشهداء الشوارع والحوارى.. كنا صبية مهمتنا المساعدة فى نقل الشهداء إلى مقابر جماعية بالنادى المصرى القديم وحديقة سعد زغلول.. فى المساء توقف القتال وبقيت النيران.. وساد صمت رهيب ربوع المدينة..

كانت الأخبار تأتى من رجال المقاومة وهم يحملون بقايا جنود المظلات الإنجليز من العتاد والأسلحة.. فقدنا شهداء ومصابين فى معركة الجميل بعد أن نزلت جحافل المظلات على الأرض.. كان «مهران» قائد الفدائيين قد أصيب وتم أسره طبعاً لا نعلم هذا.. بعد الحرب عاد لنا القائد دون عينيه! كانت المعركة غير متكافئة بين مقاومة تحمل البنادق وأسراب الطائرات والبوارج وجحافل من الدبابات.. لم يستطيعوا اختراق حى العرب.. فى أحد الأيام كان الجوع والعطش يأكل الكبار ويهدد الصغار.. مرت فى شارع الروضة حيث كنا نسكن.. ثلاث دبابات ضخمة يعتلى كل منها جندى يتحدث العربية ولنا «نحن روس» ويرددون هذه الكلمة سار خلف الدبابات رجال المقاومة ومن خلفهم كانت صبية حى العرب.. كنا نهتف «روسيا جت»ونردد الهتاف.. ومن شارع رقم «100» اتجهت الدبابات إلى شارع محمد على ومن خلفها الفدائيون فقط.. هناك أعلنت عن نفسها وفتحت النيران على رجال المقاومة..

قاتلت بورسعيد ببسالة.. وهناك من الأسماء أسهموا فى تحويل حياة الإنجليز إلى جحيم وقتلوا وخطفوا منهم الكثير.. ولم يستمر بقاؤهم باحتلال المدينة سوى 47 يوماً فقط.. خرجوا وهم يحملون العار وبقيت بورسعيد تحمل الانتصار.. ثم جارت علينا الأيام وانتقلنا فى تطور اجتماعى حتى وصلنا إلى هذه الأيام..

دخلت المدينة كل معارك الوطن حتى معركة الإخوان تحركت بورسعيد كعادتها دائماً وأعلنت الاستقلال عن حكم جماعة الإخوان.. ودخلت فى عصيان مدنى.. وفرضت حظر التجوال على الجماعة..الآن.. تمر الأيام على المدينة وأبناؤها يحملون فى عيونهم دموعاً غزيرة بغزارة دماء شهداء أجدادهم.. المدينة أصبحت مهزومة الآن فى معركة «رغيف العيش».. مع أنها لم تهزم قط.. لكن معركة الرغيف كانت من أصعب معاركها..

يوجد ببورسعيد30 ألف أسرة يعجزون عن دفع الإيجارات منذ سنوات ومهددين بالسجن والطرد.. 50 ألف شاب وشابة لا يجدون عملاً.. ووظائف مدينتهم تم اغتصابها لآخرين.. والمدينة الباسلة أصبحت محاصرة اقتصادياً واجتماعياً والتجارة متوقفة فيها والمحال مغلقة.. والحصص الاستيرادية فى مكاتب التجار غير معمول بها.. وما أبكى المدينة وجعلها حزينة أن أصحاب التهريب الرسمى بالعاصمة أصبحوا يتهمون المدينة الباسلة بالتهريب.. مع أن المدينة أصبحت تحت الحصار منذ سنتين.. من إذن هم المهربون؟! إن أبناء المدينة الباسلة وهم أحفاد 56 يشعرون الآن أنهم يرتدون الملابس الحمراء.. وكأنهم ينتظرون الإعدام الاجتماعى!! حتى أسعار الأراضى ارتفعت بجنون وأصبحت أكثر من أسعار «نيويورك».. لقد استولى «أغنياء الثورة» على ثروات المدينة وأصبحت الأغلبية العظمى من ضحايا الثورة.. بعد أن كانوا الكتيبة الأولى التى حققت انتصار الوطن.. إن بورسعيد الآن تبكى من الحسرة.. وعدم وجود من يسأل عنها بعد أن كانت الباسلة تسأل وتضحى للجميع!! إن الأحفاد يتطلعون إلى حكومة تسأل عنهم وتعالج جراحهم وهم لا يسألون ولا يطالبون بشىء بل يريدون أن يشعروا أن هناك من يشعر بهم.. إن هناك الآلاف من المصانع المغلقة بسبب التهريب الرسمى، حيث تتدفق يوميا آلاف الحاويات التى تحمل كل أنواع السلع من جميع الموانئ وتدك الاقتصاد الوطنى بقوة وتغلق مصانعنا وتشرد عمالنا.. إننا كل ما نرجوه.. اجعلوا الوطن كله للصناعة الوطنية.. وبورسعيد بالقانون للمستورد فقط.. حتى نضمن أن يعود الاقتصاد الوطن قوياً.. وتعود الحرية الاقتصادية لبورسعيد وهذا كله لصالح الوطن.. هل هناك من يسمعنا أم نستمر فى الحياة ولم يعد لدينا فى العيون دموع؟!