رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغيرات الدولية والإقليمية وتأثيرها


تناولت فى المقالات السابقة مدى تأثير المتغيرات الدولية والإقليمية على أطراف المعادلتين الدولية والإقليمية، ومدى تأثيرها على العالم العربى باعـتباره المكون الرئيسى للنسق الإقليمى لمنطقة الشرق الأوسط، وأوضحت مدى الحاجة الاستراتيجية الملحة للعالم العربى لبناء استراتيجية عـربية موحدة قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر التى تُحيق بالمنطقة العربية، وتناولت المحددات التى تُحد وتقف حائلاً دون بنائها، وأتناول اليوم المرتكزات التى يُمكن أن ترتكز عليها الاستراتيجية المقترحة، ومن الطبيعى أن نبدأ بالمرتكزات الأمنية والسياسية والعسكرية، أولاً نظراً للظروف الراهنة، إذ يُعـد الموقع الجيوستراتيجى الفريد للمنطقة العربية أحد أهم هذه المرتكزات، حيث تُعتبر قلب العالم الذى يمنح التفوق لمن يُسيطر عليه، والذى لا غنى عـنه فى بناء استراتيجيات القوى العـظمى والكبرى التى نشأت على مر التاريخ أو التى قد تنشأ مستقبلاً.

إذ يُشير الواقع إلى أن المنطقة العربية تقع فلكياً بين خطى طول 60 درجة شرقاً، 28 درجة غرباً وهى بذلك تُعـتبر إقليماً جغرافياً متصلاً دون عوائق أرضية وتجعله إقليماً ممتداً واسعاً يتوسط العالم المعـمور، وتتركز فيه جميع طرق المواصلات التى تربط الشمال بالجنوب والشرق بالغرب، كما تقع بين دائرتى عرض 40 درجة شمالاً، 2 درجة جنوباً، وهى بذلك تقع فى مكان متوسط بين النطاق الجغـرافى المعـتدل والنطاق المدارى جنوباً، وبذلك تتنوع غلاتها ومحاصيلها، وتتعـدد أنشطة القوة البشرية لشعـوبها، بما يُمكنها من تحقيق الاكتفاء الذاتى الغـذائى لهذه الشعـوب بقليل من الإدراك والحس والانتماء القومى لشعـوبها، بل ويمكنها أن تشارك فى تضييق الفجوة الغـذائية العالمية.

ويلعـب الموقع بالنسبة للبحار والمحيطات دوراً مهماً فى بناء الاستراتيجية المقترحة، إذ يشير الواقع إلى أن المنطقة العربية ُتعـتبر مـنـطـقـة الـتـقـاء اليـابـس بالماء، فهى تُسيـطر عـلى البحريـن الأحـمـر والمتـوسط والخليج العـربـى، وتُعـتبر جميعها مسطحات مائـيــه مهمة من منظور التطور الاستراتيجى لوسائل الملاحة الدولية والتجارة العالمية، وتُشرف المنطقة على المحـيـطـيـن الهـنـدى والأطـلـنـطى اللذين يتحكمان فى قـارات العـالم القديم، وتحـتـوى المنطقة على برزخ السويـس ومضـيـق باب المـنـدب اللذين يـفـصلان يـابـسة افريـقـيـا عـن آسيـا، وتشرف على مـضـيـق جـبـل طارق الـذى يـفـصـل يـابـسة أفريـقـيــا عن أوروبا وتشارك فى الإشراف على مضيق بنتلاريا، وتحتوى على مضيق تيران، وتهيمن على الخليج العـربى وخليج عـمان وخليج عـدن وقناة السويس وجميعها تُعتبرأذرع ومضايق مائية مهمة تتحكم جميعها فى الطرق البحرية الرئيسية للنقل البحرى إلى أعـماق قارات العالم القديم والجديد.

ويشكل موقع المنطقة العـربية بالنسبة للمناطق الإقليمية الأخرى والتكتلات العالمية العملاقة أهمية استراتيجية بالغة، إذ يرتكز الجنوب الأوروبى على الدول العربية فى شمال أفريقيا، وتُعتبر هذه الدول العمق الاستراتيجى الطبيعى للقارة الأوروبية، وهو ما يُشير إلى أن الدول العربية فى شمال أفريقيا تُعـتبر الركن الأساسى الذى يستند إليه الأمن الجماعى الأوروبى، كما تُشكل المنطقة العربية الحد الغربى لتكتلات شرق آسيا العـملاقة «تكتل الأسيان والصين والهند» وهى بذلك تُعـتبر ركناً أساسياً لاقتصادات هذه التكتلات، وبالمثل تُعتبر المنطقة العربية الحد الشمالى لأفريقيا السوداء الواقعة جنوب حزام الصحراء الكبرى، وهى بذلك تُعتبر المدخل الشمالى والشرقى الطبيعى للعمق الأفريقى، وبالرغم من التطور الهائل لوسائل واستراتيجيات النقل عامة، وبالرغم من التقدم التكنولوجى المذهل فى وسائل الصراع البحرى خاصة، فقد احتفظت المنطقة بأهميتها الجيوستراتيجية، وهو ما تؤكده المواجهات الراهنة بين الولايات المتحدة وروسيا فى البحر المتوسط خاصة فى المناورات البحرية التى تمت مؤخراً فى مياهه.

وتُعـد مساحة وطبوغـرافية الإقليم العربى أحد المرتكزات الرئيسية لبناء الاستراتيجية العربية المقترحة، فمساحة الإقليم العربى تعادل مساحة القارة الأوروبية تقريباً، وتكاد تعادل مساحة الولايات المتحدة، وتوفـر الطبيعة لهذه المساحة جميع الاشتراطات التى تجعـل منها كلاً مترابطاً بحكم امتدادها وتواصلها الجغرافى بما يجعـلها تُشكل وحدة جغـرافـيـة واحدة بالرغم من تجزئتها عـبر حـدود مصطـنعة بواسطة المستعـمر «سايكس بيكو»، وتستند حدود المنطقة العربية فى معـظم أجزائها إلى موانع طبيعـية، حيث تحيط بها مجموعة من الهضاب الواسعة والجبال «هضبة الأناضول شمالاً فى تركيا»، وجبال زاجاروس شرقاً فى إيران، وتكاد جبال البحر الأحمر تلتحم مع هضاب إثيوبيا شرقاً وجنوباً، وحزام الصحراء الكبرى الأفريقى من الجنوب حتى الغرب، وهو ما يُوفر لها ولشعـوبها فرص الحماية الطبيعـية والاستقرار والأمن ما إذا أحسن وضع خطط الدفاع عنها وصيانة الأمن الجماعى العـربى.

ونستكمل فى الأسبوع المقبل بإذن الله المرتكزات الاقتصادية والاجتماعية التى يمكن أن ترتكز عليها الاستراتيجية العربية المقترحة.