رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيرات الدولية والإقليمية وتأثيرها «31»


تناولت فى المقال السابق المحددات السياسية والأمنية والعسكرية النابعة من داخل العالم العربى، والتى تقف حائلاً دون بناء الاستراتيجية العربية الموحدة القادرة على مواجهة التحديات والمخاطر الناجمة من تفاعلات المتغـيرات الدولية والإقليمية، وسأتناول اليوم أبرز التحديات الاقتصادية التى تعـوق بناءها، إذ يُشير الواقع إلى أن العالم العربى يتجه بسرعة عالية إلى حافة أزمة «مفتعلة» واقعـة لا محالة بالغـة الحساسية والتعـقـيـد، تتمحور حول محدودية الموارد المائيـة، حتى تلك الدول التى تجـرى فى أراضيها الأنهار الفيضيـة التى تنبع جميعها من أراضى القوى الإقليمية غـير العـربية «تركيا ـ إثيوبيا»، فـإذا ما عـلمنا أن 90% تقريباً من مساحة العالـم العـربى تـقع فى مناطق جافـة أو شبه جافـة، وأن دول المنابع لها مطالب لإحداث التنمية الشاملة لدولهم بإنشاء العـديـد من المشروعات المائية التى قد تؤثـرعلى الإيرادات المائية لدول المصب العربية، لأدركنا عـلى الفـور مدى الانكشاف الأمنى الذى سينتج عن الـوضع الـمائى العـربى، الأمر الذى يشيـر إلى أن أزمة المياه المقبلة ستكـون حادة، ولأدركنا أيضاً أن الأمن المائـى العـربى هـو التحدى الأكبر الذى سيواجهه العـرب منذ الآن فصاعـدا لإضعاف القوة العربية الشاملة، وإحداث الفوضى العارمة فى بعـض الدول العربية خاصة الدول المركزية «مصر ـ سوريا ـ العراق».

وتُشير دلالات ذات الواقع إلى أن التخطيط لافتعال هذه الأزمة قد بدأ فى مطلع خمسينيات القرن الماضى عـندما تعاقدت مصر على صفقة الأسلحة التشيكية، فنشبت أزمة علاقات بين مصر والولايات المتحدة استمرت طويلاً، ونتج عنها رفض البنك الدولى الذى تسيطر عليه الولايات المتحدة تمويل السد العالى فأسندت مصر بناءه للاتحاد السوفييتى وهو ما يُشير إلى التوجه المصرى الجديد تجاه القطب المنافس للولايات المتحدة، حيث أعـلنت آنذاك أنها ستجعـل من هذا السد كالعـدم حتى ولو كان ذلك بعـد حين، فبدأت فى التخطيط لإقامة عدد من السدود على النيل الأزرق الذى ينبع من هضبة إثيوبيا، والذى يمد مصر بحوالى 85% من إيرادها السنوى، وقامت بتحديد أنسب المواقع لهذه السدود بما يؤثر بالسلب على الأمن المائى المصرى، ثم جاءت حرب أكتوبر 73 التى أحدثت تضامناً عربياً مع مصر ومنعـوا تصدير البترول لحلفاء الولايات المتحدة فى الغرب، فأقسم كيسنجر ليجعـلن تكلفة لتر المياه تفوق كثيراً تكلفة لتر الوقود فى هذه البلاد، وفى توقيت متزامن قامت تركيا بتنفيذ مشروعاتها المائية فأقامت عدداً من السدود على منابع نهر الفرات على هضبة الأناضول، حيث حرمت سوريا من 32% والعراق من 37% من إيرادهما السنوى من مياه النهر، مع ملاحظة أن إسرائيل قد سبقتها فى تحويل مجرى بعـض الأنهار العربية داخل أراضيها.

بعـد ذلك أعـلنت تركيا عن استعدادها لمد «خط أنابيب السلام» لنقل المياه إلى كل من السعـودية والإمارات، ويصل إلى الكويت عـبر العـراق وينتهى فى الشارقة بطول 240 كم، وبيعه لهذه الدول بسعـر يصل إلى ثلث تكلفة تحلية مياه البحر، وهو نفس النهج الذى اتبعته الولايات المتحدة مع مصر، فبالرغم من أنها أوحت إلى إثيوبيا بتعـديـل سد النهضة بزيادة أبعاده الثلاثة، إلا أنه لن يؤدى إلى زيادة قدراته الإنتاجية للطاقة الكهرومائية، لكنه سيؤدى فقط إلى زيادة السعة التخزينية للمياه، الأمر الذى يكشف نواياها الحقيقية، التى تتمثل فى حرمان مصر من كامل حصتها المائية، واستخدام الفائض لزراعة مساحات شاسعة بنظام الرى الدائم، حتى لو كان لزراعة محاصيل لإنتاج الوقود الحيوى، لذلك يتعـين أن يُوضع فى الاعـتبار أن الهدف الرئيسى لإثيوبيا هو تحكمهاالكامل فى تصريف مياه النيل الأزرق خاصة بعـد استكمال بناء السدود الثلاثة الأخرى على مجراه، حتى ولو كان ذلك ببيعه لمصر بالثمن الذى تحدده.

وفى ظل الوضع المائى العربى، ووقوع حوالى90% من مساحة العالـم العـربى فى مناطق جافـة أو شبه جافة، ومع غـياب سياسة التكامل الزراعى أصبحت جميع الدول العـربية دون استثناء مستوردة لغـذائـها بالرغـم من الإمكانات الـزراعـية الهائلة لـدى بعـض دوله، إذ يشير تقرير تحديات التنمية الذى يرصد مدى اعـتمادية الدول العربية على الواردات لتلبية احتياجاتها الغـذائية، والذى تم عـرضه فى اجتماع مجلس وزراء التنمية العـرب رقم 29، إلى أن سيادة مصر الغـذائية تُعـتبر منخفضة، وأن سيادة باقى الدول العـربية تُعـتبر منخفضة جداً، وسيؤدى تزايد الطلب على المحاصيل الرئيسية التى يعـتمد عليها الإنسان العـربى، إلى ارتفاع أسعار هـذه المحاصيل وزيادة الأعـباء على حكومات الدول العـربـيـة.. وفى الأسبوع المقبل بإذن الله نستكمل المحددات الاقتصادية ونبدأ المحددات الاجتماعـية.