رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغيرات الدولية وتأثيرها فى المشهد السياسى العالمى «30»


تناولت فى المقال السابق تأثير المتغـيرات الدولية والإقليمية لتوضيح التحديات والتهديدات المؤكدة والمحتملـة ذات التأثير المباشر الموجهـة ضد «العالم العربى»، وأشرت إلى أن نقطة الانطلاق السليمة لبلوغ مستقبل أفضل يُمكن أن يصبو إليه «الوطن العـربى» هى حتمية بناء استراتيجية عربية موحدة قادرة على مواجهة هذه التحديات والمخاطر، ويتطلب بناء مثل هذه الاستراتيجية إعـداد دراسة شاملة عن الموقف الاستراتيجى، تتناول المحددات التى تقف حائلاً دون بنائها، وتضع تصورًا لرؤية استراتيجية ورسالة واضحة، وتحلل المقدرات العـربية التى يُمكن أن يرتكز عليها بنيانها تحليلاً واقعـياً، وتنتهى بتحديد الأهداف الاستراتيجية وأدوات ومراحل وتوقيتات تحقيقها، وسأتناول اليوم التحديات النابعة من داخل العالم العربى التى تحد بناءها، ومن الطبيعى البدء بالمحددات السياسية والأمنية والعسكرية، حيث يكمن أبرزها فى الآتى:

أولاً: لم تحقق دول «العالم العربى» منذ استقلالها قدرًا ما من الاعتماد المتبادل، فلم تـحقق حتى الآن الحـد الأدنى من التكامل والتنسيق فى جميع المجالات، الأمر الذى يُشير إلى أنها لم تُدرك أهمية المنطقة العربية، فبالرغـم من امتدادها وتواصلها الجغرافى الذى يجعـل منها وحدة جغـرافية واحدة لتُشكل نمطا إقـليمـياً مميزًا دون وجود عائق واحد يفصل بين دولها، وبالرغم من أنها تحتل موقعًا جيواستراتيجيًا بالغ الأهمية، إلا أن العرب جعـلوه مطمعًا لاستراتيجيات القوى العـظمى والكبرى على مر العـصور، فتعاظمت فيها مصالح هذه القوى إلى الحد الذى أصبح تدخلها أمراً مقضياً للمشاركة فى إدارة شئونها حماية لمصالحها، هذا التدخل هو النتيجة الطبيعـية لعجز العالم العربى عن بناء نظام موحد يستحق أن يُطلق عـليه «النظـام العـربى»، حتى أصبحت المنطقة نمطاً إقليمياً يموج بالمتناقضات، تتوحد فيه أهداف القوى العـظمى والكبرى وتلتقى فيه مصالحها، وتتفرق فيه مصالح دولـة، نمط تنعـم فيه هذه القوى بموقعه وثرواته وإمكاناتهالاقتصادية الهائلة، وتشقى فيه دولة لغـياب الإرادة القومية والافتقار إلى تكنولوجيا التقـدم، فأصبح يموج بكثير من المشكلات حتى أصبح التوازن الاستراتيجى لصالح القـوى الإقليمية غـير العـربية خاصة فى بعـده القيمى والسلوكى، حيث سيظل توازن سباق التسلح يُمثل الإشكالية الكبرى، وهو الأمر الذى يحمل فى طيـاته مخاطـر هائلة للمنطقة بأسرها، ويكمن جوهر هذه المخاطر فى عدم التحكم فى ذلك السباق المحموم للتسلح بجميع مستوياته «التقليدية وفـوق التقليـديـة وأسلحة الدمار الشامل» خاصة مع الامتلاك المؤكد لإسرائيل للرادع النووى، والامتلاك المحتمل لإيران لهذا الرادع أو على الأقل امتلاك تكنولوجيا تصنيعه.

ثانيا: مازالت مشروعات القوى العـظمى والكبرى، ومشروعات القوى الإقليمية غير العـربية تُمثل التهديـد الداهم للأمن القومى لدول «العالم العـربى» بأسره، ودون استثناء حتى تلك التى تعتقد أنها بمعـزل أو بمنأى عن هذا التهديد باعتبارها تحت مظلة الحماية الأجنبية، فما زال مشروع إعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير الأمريكى قائمًا، والقائم على أساس تفتيت الدول العربية المركزية إلى كنتونات صغـيـرة تستوطنها أقليات عرقية أو دينية أو مذهبية، وما زالت إيران تسعى حثـيثاً لتحقـيق حلمها الدائـم لإحيـاء الإمبراطورية الفارسيـة تحت الراية الشيعـية، وما زال العثمانيون الجدد يسعـون حثيثاً لإحياء دولة الخلافة الإسلامية، وما زالت إسرائيل تسعى إلى الاستحواز على أرض الميعاد التى وهبها الرب لإبراهام، ولتحقيق ذلك تعاونت هذه القوى «العـظمى والكبرى، والقوى الإقليمية غير العربية» فى جلب وتوطين واستخدام الجماعات التكفيرية الإرهابية لإغراق دول «العالم العربى» فى الفوضى العارمة، وجر شعـوبها إلى منزلقات التقاتل والتناحر، حيث تقوم القوى الإقليمية غير العـربية بتوفير البيئة الحاضنة لهـذه الجماعات وتدريبها وتمويلها وتقديم التأمين اللوجيستى الشامل لها، لإحداث الإرباك العام وإنهاك وهدم أركان ومؤسسات الدولة لإسقاطها من الداخل، أو تقسيمها وتفتيتها وفقا للمنظور الجيوبوليتيكى الأمريكى وبما يتسق مع مصلحة القوى الإقليمية غير العربية.

ثالثاً: لم تتمكن دول العالم العربى من استيعاب دروس القرن العـشرين، خاصة ذلك الدرس الذى يمكن إيجازه فى أن قوة الدولة لا تـقاس بالقوة الاقتصادية أو الاجتماعية وحدها خاصة تلك القائمة على الفائض المالى أو الفائض البشرى الضخم، وإنما تُقاس بالقوة الشاملة التى تُحقق توازنها الاستراتيجى مع الآخرين، وأن عناصر القوة الشاملة لن يتم تنميتها تلقائيًا أو بالاعـتماد على الآخرين، بل يتم تنميتها فقط بالاعـتماد على القوة الذاتية للدول العربية مجتمعة، وأن القوة العـربية المجتمعة هى السبيل الوحيد لحماية وصيانة الأمن الجماعى العربى بجميع عناصره «عـنصر الوجود والبقاء، عـنصر السيادة على الأقاليم البرية والبحرية والجوية والفضائية، وعنصر تحقيق التنمية الشاملة اللازمة للحفاظ على وتنمية القوة الشاملة».. وفى الأسبوع القادم بإذن الله سأتناول المحددات الاقتصادية والاجتماعـية.