رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيرات الـدولية والإقليمية .. وتأثيرها على المنظور الأمريكى « 25»


الولايات المتحدة تُصر على إقامة دولة كردية على أساس عـرقى ضمن مشروعها الذى يهدف إلى إعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير

تناولت فى المقالات السابقة الاعـتبارات التى جعلت من تركيا دولة لها أهمية كبيرة فى الاستراتيجية الأمريكية والأطلسية، حيث تعـتبر الأداة الرئيسية فى صراع القوى البحرية والقوى البرية، فهى تتحكم فى بحر مرمرة المحصور بين مضيقى البسفور والدردنيل التركيين، حيث يُصبح البحر الأسود بحراً مغلقاً وتٌمسى روسيا دولة حبيسة عـنـد إغلاق بحر مرمرة الذى يُعـتبر منفذها الوحيد للوصول إلى البحر المتوسط ومن ثم إلى محيطات العالم،ثم بدأت فى تناول صيغ العلاقات التركية مع القوى المختلفة، وتناولت المسارالأول للمحتوى الفكرى لمنظور الولايات المتحدة باعـتبارها قائدة تفاعلات النسق الدولى، والذى يهدف إلى ضرورة الإبقاء على تركيا ضمن بنيان الاستراتيجية الأمريكية والأطلسية، وعـرقـلة جهود القوى المنافسة لاستمالتها،خاصة روسيا التى عرضت عليها مشروعها العملاق Turk Stream الذى يجعل منها الناقل الرئيسى للغاز الطبيعى الروسى إلى دول الاتحاد الأوروبى، على أن تقوم روسيا بإنشاء خط أنابيب تحت مياه البحرين الأسود ومرمرة وصولاً إلى موانيها الغربية، وانتهى المقال الأخير بطرح عـدة تساؤلات هى، هل يُمكن لتركيا رفض هذا المشروع العـملاق؟ أم ستفضَل استمرار ارتباطها بالولايات المتحدة بالرغم من الشكوك المتبادلة بينهما؟ وما هذه الشكوك؟ وما الدور الذى يُمكن أن تلعـبه فى هذا الصراع؟ وهو ما سأتناوله اليوم.

وسأتناول الشكوك المتبادلة للتمهيد للإجابة عن هذه التساؤلات، فالولايات المتحدة لن تنسى لتركيا أسباب عدم اشتراكها فى التحالف الدولى بقواتها البرية التى تهدف إلى القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» من حيث الشكل وفقاً للسيناريو الأمريكى الهابط، بينما يهدف من حيث الجوهر إلى إسقاط نظام الأسد، ولن تنسى الولايات المتحدة حجج تركيا الواهية بضرورة إقامة منطقة عازلة Buffer Zone قبل اشتراكها بقواتها البرية فى سوريا تارة، وإقامة منطقة آمنة Safety Area يعلوها منطقة حظر جوى تارة أخرى، فكلا المفهومين سواء، إذ من الطبيعى أن تشمل المنطقة العازلة منطقة حظر جوى ضمنها،ولن تنسى تركيا للولايات المتحدة عـدم قيامها بممارسة الضغـط الكافى على الاتحاد الأوروبى لقبول عضويتها، كما تتشكك تركيا السنية كثيراً فى نوايا الولايات المتحدة، حيث تعـمل على تعـظيم دور إيران الشيعـية فى المنطقة على حساب دورها، خاصة بعـد التسوية التاريخية لقضية إيران النووية.

أما أكثر الشكوك المتبادلة حساسية وتعـقـيـداً فهى القضية الكرديـة، والتى تُعـتبر الأكثر تأثيراً والأشد خطراً على أمن تركيا القومى، فتركيا كانت ترفض أساساً مجرد منح الحكم الذاتى للأكراد، فكيف تقبل إقامة دولة كردية على حدودها الجنوبية الشرقية، وربما تؤازرها عرقيات أخرى من الجمهوريات الإسلامية التى تفككت عن الاتحاد السوفييتى، والولايات المتحدة تُصر على إقامة دولة كردية على أساس عـرقى ضمن مشروعها الذى يهدف إلى إعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير، فعـند إقامة الدولة الكردية ستفقد تركيا أكثر من 30% من أجود أراضيها وأكثرها موارد، كما ستفقد جميع مشروعاتها المائية على هضبة الأناضول، بما فى ذلك مشروع خط أنابيب السلام المزمع إنشاؤه لنقل المياه من ثلوج الهضبة إلى كل من السعـوديـة والإمارات والكويت وينتهى فى الشارقة، مع إمكانية مد خط آخر إلى إسرائيل، وهو ما كان سيعـمل على تعـظيم إجمالى ناتجها المحلى، حتى فى حالة بيع المياه المنقولة بثلث تكلفة تحلية مياه البحر، كما ستسيطر الدولة الكردية على مصادر النفط العراقى فى كردستان، وستتحكم فى خط أنابيب النفط العراقى المار فى الأراضى التركية وتقوم بتصديره من موانيها، لكن أخشى ما تخشاه تركيا أن تتحول الدولة الكردية العرقية والعرقيات الأخرى إلى عمق مذهبى لإيران مستقبلاً ويُعـتبر تنظيم داعش نقطة الالتقاء الوحيدة بين الولايات المتحدة وتركيا، فتركيا تُدرك يقينا أنه صنيعة أمريكية، فقد كان فصيلاً عـضوياً بالمعارضة السورية التى يُطلق عليها المعارضة المعـتدلة، قامت الولايات المتحدة بتوطينه فى المنطقة لهدم أركان ومؤسسات دول الربيع العربى لإسقاطها من الداخل وتفتيتها بما يضمن إعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير على أساس عرقى أو دينى أو مذهبى أو طائفى، أما تركيا فتقوم بتوفير جميع صنوف الدعم اللوجيستى للتنظيم منذ قيام أمير قطر بالوساطة لإطلاق سراح القنصل والمواطنين الأتراك الذين كان يحتجزهم التنظيم كرهائن فى يونيه 2014، والآن يقوم التنظيم برد الجميل للجميع، فلم يُوجه طلقة واحدة ضد الولايات المتحدة أو تركيا أو قطر أو إسرائيل أو حتى إيران، أى دول التحالف المعـنى بتفتيت المنطقة العربية وإعادة هيكلتها وتشكيلها بما يتسق مع مشاريعها القومية وحسبما يقتضى المنظور الأمريكى.. وللحديث بقية الأسبوع المقبل بإذن الله.

استاذ العلوم السياسية -جامعة بورسعيد