رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيرات الـدولية والإقليمية .. وتأثيرها على المنظور الأمريكى «24»


المشروع الذى سيجعـل الدول الأوروبية هى التى تسعى وراء ضمها للاتحاد الأوروبى؟، أم ستفضَل تركيا البقاء ضمن بنيان الاستراتيجيتين الأطلسية والأمريكية فى ظل الشكوك المتبادلة بينها وبين الولايات المتحدة؟ فما هذه الشكوك؟ وما الدور الجديد الذى يُمكن أن تلعـبه فى الاستراتيجيتين؟ هذا ما سأتناوله الأسبوع المقبل بإذن الله.

خلصت من المقالات السابقة إلى أن تركيا تُعـتبر دولة لها أهمية استراتيجية كبيرة فى الاستراتيجيتين الأمريكية والأطلسية، إذ يلعـب موقعها الفريـد دورا رئيسيا فى صراع القوى البحرية والقوى البرية، فهى تطل على البحرين المتوسط والأسود وتتحكم فى بحر إيجة وبحر مرمرة المحصور بين مضيقى البسفور والدردنيل التركيين، فالبحر الأسود يُصبح بحرا مغلقا وتٌمسى روسيا دولة حبيسة عـنـد إغلاق بحر مرمرة الذى يُعـتبر منفذ روسيا الوحيد للوصول إلى البحر المتوسط ومن ثم إلى محيطات العالم، وهو ما يُفسر لنا لماذا لجأ مخططو الاستراتيجية الأمريكية والأطلسية للارتباط بتركيا ارتباطا عـضويا، ويفسر لنا أيضا لماذا تُمثل تركيا حجر الزاوية فى الاستراتيجيتين الأمريكية والأطلسية، وتناولت عناصر المعادلة الاستراتيجية التركية لأوضح صيغ العلاقات التركية مع القوى المختلفة سواء فى النسق الدولى أو الإقليمى أو فى نسق شرق البحر المتوسط، وبدأت بالعالم العـربى باعـتباره المكون الرئيسى لنسقها الإقليمى فى منطقة الشرق الأوسط، حيث اتسمت هذه العلاقات بطبيعة تنافسية أحيانا وطبيعة تصارعـية غالبا خاصة بعـد اعـتلاء حزب «العـدالة والتنمية» قمة السلطة عام 2002، وبروز أطماع قادة تركيا فى إحياء دولة الخلافة «مشروع العثمانيين الجدد».

وأتناول اليوم مسارات المحتوى الفكرى للمنظور الأمريكى، حيث مازالت الولايات المتحدة تُمثل القطب الوحيد الذى يقود تفاعلات العالم، ويتمثل المسار الأول فى الإدراك الأمريكى بالتطورات التى طرأت فى النظام الدولى الراهن ليُصبح نظاما متعـدد الأقطاب ونشأت حالة استقطاب جديدة قـد تؤدى إلى تفكيك تحالفات وهدم توازنات قائمة وبناء توازنات جديدة وتحالفات مضادة، وهو ما يُفسر تسارع حركة الولايات المتحدة لبناء تحالف يضم القوى غير العربية فى منطقة الشرق الأوسط «تركيا وإيران وإسرائيل وإثيوبيا» ويضم قطر أيضا حتى تضفى عـليه صفة التحالف الإقليمى، وإن كان هذا التحالف لم يتم إعلانه بعـد أو حتى بنائه، إلا أنه يُمكننا ملاحظة أن الولايات المتحدة تسعى إلى إحداث التعاون الوثيق بين عناصره فى جميع المجالات على نحو عام، وفى المجال الأمنى والعسكرى على نحو خاص، وللاستدلال على سعى الولايات المتحدة الحثيث إلى إحداث هذا التعاون فإنه يُمكن ملاحظة قيام الولايات المتحدة بإجراء أكبر مناورة بحرية ربما شهدتها البشريـة شارك فيها أكثر من 40 دولة من بينها إسرائيل بطبيعة الحال قبالة سواحل البحريـن، وفى تزامن مثير للشكوك والدهشة أجرت تركيا منفردة مناورة واسعـة عـلى حدودها مع سوريـا استمرت 10 أيام، وفى الوقت نفسه أجرت القوات البحرية الإيرانية مناورة وتدريبات بحرية ضخمة فى بحر عـمان القريب من مضيق هـرمـز، فهل يُمكن أن تتم هذه المناورات الواسعة والتدريبات الضخمة فى توقيت متزامن وفى منطقة تكاد تتلاشى فيها المسافات لتشكل منطقة واحدة كانعكاس صريح للتقدم التكنولوجى الرهيب لوسائل الصراع المسلح ذات مديـات العمل الاستراتيجى البعـيـد.

ولما كانت الولايات المتحدة تدرك يقينا أنه لا غنى عن تركيا كإحدى أدوات الاستراتيجيتين الأمريكية والأطلسية، فقد أصبح هدفها الرئيسى هو السعـى الدؤوب للإبقاء عليها ضمن بنيان هاتين الاستراتيجتين، والعمل على عـرقـلة حركة القوى المنافسة «الصين وروسيا» الساعـيتين إلى استمالتها إلى صفهما، خاصة روسيا وريثة القوة السوفييتية العـظمى التى تُصر على ضرورة إحداث تحول جيوإستراتيجى فى بنيان حلف الناتو كالذى أحدثته الولايات المتحدة فى حلف وارسو، ففى زيارة بوتين الأخيرة لتركيا فى ديسمير2014، عرض على قادة العـثمانيين الجدد مشروعا أطلق عـليه turk stream يُمكن أن يُطلق عليه مشروع القرن، إذ ترتكز فكرته على أن تكون تركيا هى الناقل الرئيسى للغاز الطبيعى الروسى إلى دول الاتحاد الأوروبى، على أن تقوم روسيا بإنشاء خط أنابيب تحت مياه البحر الأسود مارا ببحر مرمرة من خلال مضيقى البسفور والدردنيل، وصولا إلى الموانى التركية الغربية «ميناءى بورصة وأزمير»، بقدرة نقل حوالى65 مليار متر مكعـب سنويا من الغاز الطبيعى الروسى.

فهل يُمكن لروسيا أن تنجح فى استمالة تركيا إلى صفها؟ وهل يُمكن لتركيا رفض مثل هذا المشروع العـملاق الذى سيعـزز مكانتها دوليا وإقليميا خاصة فى النسق الأوروبى الذى تسعى إلى الانضمام إليه بكل قواها، وهو المشروع الذى سيجعـل الدول الأوروبية هى التى تسعى وراء ضمها للاتحاد الأوروبى؟، أم ستفضَل تركيا البقاء ضمن بنيان الاستراتيجيتين الأطلسية والأمريكية فى ظل الشكوك المتبادلة بينها وبين الولايات المتحدة؟ فما هذه الشكوك؟ وما الدور الجديد الذى يُمكن أن تلعـبه فى الاستراتيجيتين؟ هذا ما سأتناوله الأسبوع المقبل بإذن الله.

أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد