رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيرات الـدولية والإقليمية.. وتأثيرها على المنظور الأمريكى ٢٣


تناولت فى المقال السابق الاعـتبارات الرئيسية التى جعـلت من تركيا دولة ذات أهمية استراتيجية خاصة فى المنظورين الغربى والأمريكى، حيث كان اتساق معـطياتها الجيوستراتيجية والـديموغرافية فى مقدمة هذه الاعتباراتخاصة ذلك الموقع الفريـد الذى جعـلها تلعـب دورا رئيسيا فى أغـلب إستراتيجيات القوى العـظمى والكبرى التى نشأت على مر تاريخ تركيا، وفى بناء التحالفات والتوازنات المضادة التى تكون طرفا فى صراع القوى البحرية والقوى البرية، إذ تطل تركيا على البحر المتوسط والبحر الأسود وبحر إيجة وتتحكم فى بحر مرمرة، فما كان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم إلاَ تجسيدا لهذا الصراع، حيث تتحكَم شبه الجزيرة فى البحر الأسود الذى يُصبح بحرا مغلقا وتٌمسى روسيا دولة حبيسة بإغلاق بحر مرمرة المحصور بين مضيقى البوسفور والدردنيل التركيين، إذ يُعـتبر بحر مرمرة منفذ روسيا الوحيد للوصول إلى البحر المتوسط ومن ثم إلى محيطات العالم، ولذلك اضطر مخططو الاستراتيجية الأمريكية والأطلسية للارتباط بتركيا ارتباطا عضويا.

ولتحليل صيغ العلاقات التركية فى النسق الدولى ونسقها الإقليمى ونسقها فى شرق البحر المتوسط، فإنه ينبغى أولا تبيان عناصر المعادلة الاستراتيجية التركية، إذ يُعـتبر العالم العـربى هو العـنصر الأساسى فى معادلتها فى نسقها الإقليمى باعـتباره المكون الرئيسى لمنطقة الشرق الأوسط، وقـد لعـب البعـد التاريخى دوراً مهماً فى تشكيل وصياغة العلاقات بينهما، إذ كانت معـظم الدول العربية ولايات عثمانية فإتسمت هذه العـلاقـات بقـدر كبيـر من الخصوصية فى معـظم فتراتها، إلا أنها تصدعـت بعـد انهيار الإمبراطورية العـثمانيـة وقيام الجمهورية التركية ذات النمط العلمانى والتوجه الغربى فى 1923، ثم برزت بعـضالقضايا مع تقسيم سايكس بيكو وترسيم الحدود المصطنعة بين الدول العربية، والتى أثرت على التفاعلات العربية-عربية، والعربية -التركية، وبعـد اعـتلاء حزب «العـدالة والتنمية» الإسلامى قمة السلطة عام 2002 اتسمت هذه العلاقات بطبيعة تنافسية أحيانا وطبيعة تصارعـية غالبا ، خاصة مع بروز أطماع والى تركيا الجديد فى إحياء دولة الخلافة تحت راية العثمانيين الجدد.

ولعـل أولى أبرز القضايا تأثيرا على العلاقات التركية العربية هى قضية لواء الإسكندرونة الذى يتكون من أنطاكيةوالإسكندرونة ويتميز بموقعه الاستراتيجى وخصوبته العالية، والتى تعـود جذورها إلى منتصف ثلاثينيات القرن الماضى حين استقطعـته فـرنسا من سوريا وضمته إلى تركيا، فى محاولة لاستمالتها للإنضمام للتحالف الغربى ومنعها من الانضمام للتحالف الألمانى ، وتكمن القضية الثانية فى رفض تركيا المطلق لإقامة دولة كردية تضم أكراد سوريا والعـراق على حدودها الجنوبيةالشرقية ، وتتمثل القضية الثالثة فى إدراك تركيا بأنها ستفقد جميع مشروعاتها المائية عـند قيام الدولة الكردية، خاصة مشروع خط أنابيب السلام الذى أعلنت عنه تركيا لنقل المياه من ثلوج الأناضول إلى كل من السعـوديـة والإمارات والكويت عـبر العراق لينتهى الخط فى الشارقة بطول 240 كم من خلاله، مع استعدادها أيضا لمد خط آخر إلى إسرائيل، وبيع المياه المنقولة عبر هذين الخطين إلى الدول المعـنية بسعـر يصل إلى ثلث تكلفة تحلية مياه البحر، وكانت تركيا تعـوَل على هذا المشروع فىتعـظيم اقتصادها، أما القضية الأكثر تأثيرا والأشد خطرا على أمنها القومى فتنبع من ادراكها لمدى أهمية العـمق العـرقى للجمهوريات الإسلامية بعد تفكك الاتحاد السوفييتى لأمنها القومى، خاصة إذا ما تضامنت هذه العرقيات مع الأكراد واحتمال تأجج صراع عرقى مستقبلى على حدودها، أو عـندما تتحول هذه العـرقيات إلى عمق مذهبى لإيران، أما أحدث القضايا التى طفت على الساحة فتتمثل فى تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة المتـداخلة مع بعـضها وترسيم الحدود البحرية بين الدول المتشاطئة عـلى سواحل شرق وشمال شـرق البحـرالمتـوسـط، خاصة بعـد اكتشاف خزانات عملاقة تحتوى على الغـاز الطبيعى بكميات ضخمة، وأن هـذه المخزونـات تفـيـض كـثـيـرا عـن حاجة الدول المتشاطـئـة عـلى هـذه السواحـل من حيث استخدامات الطاقة أو التصنيع، الأمر الذى سيؤدى إلى تصدير الفائض الضخم على نحو تجارى، إذ يتشاطىء عـلى هذه السواحل مع تركيا كل من مصـر وفـلسطـيـن وإسرائيـل ولبنان وسوريـا وقبرص واليونان، مع الوضع فى الاعـتبار أن معـظم هـذه الدول لها مطالب حـدوديـة من الدول المتاخمة لها التى تتلاصق معـها عـبـر حدود مـصطـنعـة.

تلك كانت أبعاد أبرز القضايا التى تشكل جوهر العلاقات التركية العربية، وبالرغم من أن هذه القضايا تتأجج أحيانا وتخبو غالبا من على مسرح تفاعلات المنطقـة، إلا أنها ستظل عـرضة للتصاعد، وستـبقى مصدرا من مصادر التوتر والتى ستؤثر على بنيان الاستراتيجية العربية الموحدة المقترحة. وللحديث بقية الأسبوع المقبل بإذن الله.

■ أستاذ العلوم السياسية-جامعة بورسعيد