رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«قراءة فى احتفالات روسيا بذكرى عـيد النصر»


ولعـل ما أعـقـب احتفالات موسكو بعيد النصر هو الذى دعا أوباما إلى سرعة إرسال وزير خارجيته بهذه الرسائل، إذ تمثل المناورات البحرية الضخمة بين موسكو وبيكين والتى ستستمر حتى 21 مايو الجارى مصدر قلق للولايات المتحدة.

فرضت تفاعلات احتفالات روسيا بعـيد النصر نفسها كأحد أبرز المتغـيرات المعاصرة المؤثرة على المنظور الأمريكى، إذ تُشـيـر تفاعلات هذا المتغـير إلى تحوَلٍ جذرى سيُؤدى إلى إعادة هيكلة النظام الدولى الراهن وتشكيل نظام دولى جديد تتعـدد فيه الأقطاب وإن كانت ملامحه لم تتبلور بعـد، ويخطئ من يظن أن الهدف الرئيسى من احتفالات روسيا بهذه الذكرى هو إبراز قوة روسيا العسكرية فقط، بل هو إبراز لقوتها الشاملة الواثقة فى استعادة نفوذ ومكانة القـوة السوفييتية العـظمى باعتبارها الوريث الطبيعى لجميع مقدراتها، وأنها عازمة على المضى فى مسيرتها لتجنب السقوط فى الأخطاء التى وقع فيها الاتحاد السوفييتى، وتبرهن للعالم بأسره عـدم نجاح السياسات البالية التى تنتهجها وتروج لها الولايات المتحدة لفرض حالة العـزلة عليها، وأنه لا جدوى من المخططات التى تحاول الولايات المتحدة تنفيذها لتقويض استقرارها والنيل من وحدة أراضيها بافتعالها أزمة أوكرانيا وأزمة افتعال تدنى أسعار الطاقة وفرض مزيد من العقوبات، وحين أعـلن أوباما أن الولايات المتحدة على استعـداد لإعادة النظر فى هذه العـقوبات إذا تراجعـت روسيا عن قرار ضم القرم، قابل بوتين هذا التصريح بابتسامة هادئة تنم عن الثقة والسخرية، إذ لا تتعلق هذه العقوبات من قريب أو بعيد بأزمة أوكرانيا بقدر ما تتعلق بأحلام بسط السيطرة على ما بقى من دول حلف وارسو وضمها إلى الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو، حتى يضمن استمرار احتفاظها بمركز الهيمنة فى قلبها والتحكم فى تفاعلات العالم، وأكد بوتين صعـوبة انفراد الولايات المتحدة بالقرار الدولى أو إيجاد حل لأى قضية عالمية أو إقليمية دون مشاركة روسيا وليس من المبالغة القول بأن الزيارة التى قام بها جون كيرى لسوتشى منذ أيام مضت بتكليف من أوباما، تُعـبَر عن بدء إعادة هيكلة النظام الدولى الراهن وتشكيل نظام دولى جديد، حيث أبدى كيرى رغـبة الولايات المتحدة فى عدم تصعـيد المواجهة مع موسكو إلى حدودها القصوى، وأنها ترغـب فى تقليص حدة توتر العلاقات فى معـظم القضايا الخلافية بما فى ذلك القضية الأوكرانية ذاتها، واستعـداد واشنطن لدراسة مقترح الرئيس بوتين بإجراء حوار بين طرفى الأزمة الأوكرانية، إذ يؤكد بوتين دائماً أن روسيا ليست طرفا فى الأزمة، وأن أوكرانيا ومواطنى شرقها الراغـبين فى الانفصال عنها والانضمام إلى روسيا هما طرفى الأزمة، وأشاد كيرى بالتعاون مع موسكو الذى كان مفتاح التوصل إلى الاتفاق الذى تم مع إيران حول ملفها النووى، والذى يأمل أن يؤدى إلى التوصل إلى حل سياسى للأزمة السورية.

ولعـل ما أعـقـب احتفالات موسكو بعيد النصر هو الذى دعا أوباما إلى سرعة إرسال وزير خارجيته بهذه الرسائل، إذ تمثل المناورات البحرية الضخمة بين موسكو وبيكين والتى ستستمر حتى 21 مايو الجارى مصدر قلق للولايات المتحدة، خاصة بعـد أن تعـمد الإعلام الروسى التركيز على مشهد جلوس الرئيس الصينى ملاصقًا للرئيس بوتين، والتركيز على التقارب الهندى الروسى، إذ تخشى الولايات المتحدة من احتمال بناء تحالف جديد بين الدول الثلاث ذات الكتل البشرية الضخمة واحتمال انضمام قوى إقليمية إليه خاصة من إقليم الشرق الأوسط بما يضمن تحقيق التوازن الاستراتيجى مع حلف الناتو.

وللتعـبير عن فشل سياسات الولايات المتحدة فى فرض حالة العـزلة على روسيا، قام لافروف فى نهاية الزيارة بإهداء كيرى تى شيرت يحمل شارة انتصار الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية، للتدليل على إمكانية تحقيق مثل هذا الانتصار فى حالة التعاون، والتأكيد على أن الولايات المتحدة لن تستطيع تحقـيق الأمن والسلام والاستقرار العالمى بمفردها فى حالة اللاتعاون، وإمعاناً فى التعـبير عن السخرية من فشل سياسات الولايات المتحدة فى تحقيق عـزلة روسيا، قام لافروف بإهداء كيرى سلتين مملوءتين بثمار الطماطم والبطاطس للتأكيد على أن روسيا نجحت فى زراعة احتياجاتها من السلع الغـذائية التى منعـت الولايات المتحدة شركاتها من تصديرها إلى روسيا حتى تحكم عزلتها، وتحدث حالة الارتباك والفوضى فى أسواقها، حتى يُعانى الشعـب الروسى من التضخم ورفع الأسعار فـيـزيـد سخط المواطن الروسى الذى سيتحملها ويعمل على إسقاط النظام، ولكن الضرر عاد على الشركات الأمريكية والغربية المصدرة لها، وجدير بالملاحظة أن بوتين قد شارك فى الاحتفالات من بدايتها إلى نهايتها، وشارك أيضاً فى بعـض الأنشطة الرياضية التى تبرز مدى لياقته الصحية والذهنية والبدنية العالية، وهو بذلك يُشكك فى مصداقية الولايات المتحدة والغرب التى ادعت يوما بأنه مصاب بداء عضال لا يُمكَنه من إدارة شئون الدولة بكفاءة.. وللحديث بقية فى الأسبوع المقبل بإذن الله.

أستاذ العلوم السياسية -جامعة بور سعيد