رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العلاقات الدولـيـة بين التقارب والتباعـد «12»


ويشير الواقع إلى أن الصين قد تخلصت من تقاليدها البالية، لكنها تمسكت بسياسة القبضة الحديدية فى مراقبة ومتابعة تنفيذ كل أنشطتها الاقتصادية وفقاً لاستراتيجيتها الجديدة، فاستطاعت أن تقفز قفزات واسعة لتحقيق معـدلات عالية للنمو الاقتصادى فى العشرين سنة الأخيرة من القرن الماضى
لا شك فى أن سيطرة الديمقراطيين على الكونجرس الأمريكى بمجلسيه وإقالة وزير الدفاع الأمريكى وزيادة احتمال تعـيين آخر من الجمهوريين ، تُمثل أبرز المتغـيرات التى ستؤثر تفاعلاتها على المعادلة الاستراتيجية الأمريكية ، ليس فقط فى الداخل الأمريكى، بل أيضاً فى العلاقات الدولية، إذ ستؤدى إلى بروز بعـض المتغـيرات فى النسق الدولى، فما زالت الولايات المتحدة تمثل القوة الوحيدة التى تقود تفاعلات العالم فى النظام الدولى الراهن، وهو ما سيؤدى إلى بروز بعـض الأزمات السياسية والاقتصادية على الساحة الدولية، خاصة فى المنطقة العربية باعـتبارها قلب العالم الذى يمنح التفوق لمن يسيطر عليه، وباعـتبارها المكون الرئيسى للشرق الأوسط الذى يضيق ويتسع وفقاً لاستراتيجيات القوى العالمية، وانتهى المقال السابق بطرح سؤال: هو هل يُمكن للصين أن تُصبح أحد أقـطاب عالم الغـد فى حالة عـدم قدرة الولايات المتحدة على الاحتفاظ بمركز الهيمنة على العالم؟

يتعـين أولاً تحليل عـناصر القوة الشاملة للصين لضمان سلامة المنهج الذى ستقوم عليه إجابة هذا السؤال، ومن الطبيعى البدء بالمقـدرة الاقـتصاديـة باعـتبارها المقـدرة التى ما زالت تتمحور حولها باقى عـناصر القوة الأخرى، إذ يُشير الواقع إلى أن الصين قد أدركت فى العـقود الأخيرة من القرن الماضى أنها فى حالة عدم اتساق للمكانة كانعكاس صريح لتدنى مقدرتها الاقتصادية والاجتماعـية، وأدركت أيضاً مدى التباين والخلل بينها وبين التكتلات الاقتصادية العملاقة «الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى واليابان» التى تربعت على قمة الاقـتـصـاد العالمى، فبدأت فى تطبيق وممارسة تجربة اقتصادية عـملاقة ضمن استراتيجية ترتكز على ثلاثـة محاور رئيسية، الأول: هو ضرورة مضاعـفة حجم الاقتصاد الصينى من خلال الإنتاج الوفير خاصة فى المجال الصناعى مع تطبيق معايير الجودة التى تتسق مع جميع الأذواق، وتتناسب مع القدرات الشرائية لكل سوق فى أسواق العالم، والثانى هو الانـفـتـاح عـلى العـالم -شرقـه وغربـه وشماله وجنوبه- كى تصبح الصين المستثمر الرئيسى فى نسقها الإقليمى فى جنوب شرق آسيا أولاً، ثم فى دول الأنساق الإقليمية الأخرى، أما المحور الثالث فهو ضرورة السعى الحثيث لأن تُصبح تكتلاً قائماً بذاته يُمكن مجابهة التكتلات العـملاقة الأخرى.

ويشير الواقع إلى أن الصين قد تخلصت من تقاليدها البالية، لكنها تمسكت بسياسة القبضة الحديدية فى مراقبة ومتابعة تنفيذ كل أنشطتها الاقتصادية وفقاً لاستراتيجيتها الجديدة، فاستطاعت أن تقفز قفزات واسعة لتحقيق معـدلات عالية للنمو الاقتصادى فى العشرين سنة الأخيرة من القرن الماضى، فقد بلغ معـدل النمو 9.3% فى الثمانينيات، ثم تصاعـد إلى حوالى 13% عامى 91/92، وإلى 14% فى عامى 94 /95، ووصل إلى قمته فى منتصف العـقـد الأخير من القرن الماضى، إذ وصل إلى 17% عامى 94/95، وقد تضاعـف حجم التجارة الخارجية للصين فى السنوات الثمانى الأولى للألفية الثالثة إذ بلغ حجمها حوالى 200 مليار دولار مع الاتحاد الأوروبى، وبلغ حوالى 160 ملياراً مع الولايات المتحدة ، وإلى140 ملياراً مع اليابان، ووصل إلى منتهاه مع دول النسق الإقليمى للشرق الأوسط إذ بلغ 240 مليار دولار، مما يدلل على أهمية هذه المنطقة للصين.

بينما أصيبت الولايات المتحدة بالإنهاك الاقتصادى الشديد نتيجة لسياستها نتيجة لسعيها الحثيث للاحتفاظ بمركز الهيمنة على العالم والحيلولة دون زحزحته فى اتجاه الشرق «روسيا ـ الصين»، ومع معاناتها من العـجز الاقتصادى الكبير أصبحت أكبر دولة مدينة فى العالم ، الأمر الذى أدى معه إلى أن تكون الولايات المتحدة هى الطرف الخاسر دائما فى الميزان التجارى بينها وبين الصين، وبالرغم من أن الصين تحتل المرتبة الثانية من حيث الناتج القومى الإجمالى بعـد الولايات المتحدة إلا أن الصين اقتربت كثيرا لتحتل المرتبة الأولى بالنظر إلى انكماش الاقتصاد الأمريكى وتدنى معـدلات التنمية واستحكام الأزمة المالية الطاحنة التى كادت تعـصف بها وتسبب إفلاسها، فإذا ما عـلمنا أن الناتج الإجمالى للصين بلغ 9, 56 تريليون يوان عام 2013 بزيادة 4, 4 تريليون يوان عن عام 2012 ، وأن حجم الاحتياطى النقدى للصين لعام 2013 بلغ 82,3 تريليون دولار بزيادة 500 مليار دولار عن عام2012، وأن حجم استثماراتها الخارجية عام 2013 بلغ 35,1 تريليون دولار بزيادة 112 مليار دولارعن عام 2012، وأن نسبة البطالة حوالى 4 % فقط، لأدركنا على الفور أن الصين تقترب كثيراً من احتلال المرتبة الأولى للاقتصاد العالمى.

وصفوة القول، فإن هذا العـرض الموجز جداً يدلل أولاً على صعـود مقدرة الصين الاقتصادية المتعـاظمة، ويدلل ثانياً على أنه يأتى فى ضوء الاتساق والتكامل بين مواردها الاقتصادية المتنوعة، ويدلل ثالثاً أنها آتية لا ريب لتكون قطباً فى عالم الغـد، ويأتى أخيراً للدلالة على أهمية الاقتصاد فى تنمية الكتل البشرية الضخمة وتعظيم المقدرة الاجتماعية للدولة.

■ أستاذ العلوم السياسية بجامعة بورسعيد