رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العلاقات الدولية المصرية بين التقارب والتباعـد «6»


استشعـرت الولايات المتحدة حرج موقفها، فادعت أن مسئوليتها الأخلاقية تقتضى التدخل المباشر بعـد أن أصبحت الأزمة السورية قضية إنسانية فى المقام الأول، ولا أدرى أين كانت هذه المسئولية الأخلاقية حين قتلت أكثر من 100 مليون إنسان من سكان أمريكا الأصليين

تناولت فى المقالات السابقة تناقض البعد القيمى للقوى العالمية والإقليمية الفاعلة فى النسق الإقليمى للشرق الأوسط، حيث تسعى مصر إلى استعادة مكانتها الإقليمية التى فـقـدتها إبان حكم الجماعة الإرهابية، بينما تسعى روسيا الى استعادة نفوذ القـوة السوفييتية العـظمى، أما الولايات المتحدة فإنها تسعى حثيثاً إلى عدم زحزحة مركز الهـيمنة على العالم من قلبها، مع اعـتبار أن أحد الاشتراطات الرئيسية لاحتفاظها بمركز الهيمنة هو عـدم قيام قوة عالمية أو إقليمية قادرة على التحكم فى إقـليم حيوى مثل المنطقة العربية لاعـتبارات استراتيجية سبق ذكرها، وقد وضعـت الولايات المتحدة رؤية «برجنسكى» الاستراتيجية موضع التنفيذ لتحقيق ما تسعى إليه.

وتتلخص هذه الرؤية فى تأجيج الحروب فى المنطقة وإغراق شعـوبها فى ثورات فوضوية لإرباك مؤسسات الدول وتدمير أركانها خاصة الجيش والشرطة والقضاء، وتقسيم وتفتيت الدول المركزية إلى كيانات صغيرة وتسكين شعـوبها على أساس التركيبة الدينية والطائفية والعرقية بدعـوى إحداث الاستقرار لصيانة الأمن والسلم الدوليين، وتشكيل تنظيمات وميليشيات مسلحة وتوطينها لاستخدامها فى تنفيذ أعمال العـنف والإرهاب، فسعـت الولايات المتحدة إلى تأجيج الحروب فى المنطقة وبدأت بالخليج، حيث أشعـلت الحرب بين العـراق وإيران التى انتهت دون غالب أو مغلوب، فكلاهما خسر قدراته وثرواته، ثم أشعـلت حرب الخليج الثانية عـندما غـزا العـراق الكويت وقامت هى بتحريره بعـد بناء تحالف دولى لم تشهده البشرية من قبل، ثم أشعـلت حرب الخليج الثالثة بادعائها كذبـاً امتلاك العـراق للرادع النووى واتهامه بمسانـدة الإرهاب الدولى، فقامت بتدمير وتسريح جيشه واحتلته وقسَّمته على أساس العـرق (الأكراد) والمذهب (السنة والشيعة) وأصبحت هذه الكيانات جاهزة لترسيم الحدود بينها والاعـتراف الدولى بها.

وهكذا أرادت الولايات المتحدة أن يكون العـراق نموذجاً لتقسيم وتفتيت الدول المركزية فى المنطقة، وترسيم حدود نهائية بينها تُصحح حدود سايكس ـ بيكو، وأن تكون سوريا تالية للعـراق حيث عـملـت على توطين تنظيمات وميليشيات مسلحة داخلها (المعارضة المعـتدلة) ومتاخمة لحدودها (تنظيم الدولة الإسلامية فى العـراق والشام ـ داعش) لإشاعة الفوضى وإرباك قياداتها ومؤسساتها واستنزاف قدراتها بالقيام بعمليات إرهابية فى الوقت الذى يشاء والمكان الذى يختاره والأسلوب الذى يريده، حتى فسق هذا التنظيم عن أمرها خاصة عـندما قام بإشهار «دولة الخلافة الإسلامية» وسيطر على المناطق المحررة شمال سوريا والعـراق! وبايع أبا بكر البغـدادى القرشى خليفة للمسلمين، ودعا جميع الفصائل الجهادية فى أنحاء العالم إلى مبايعـته، واستبدل مصطلح الدولة الإسلامية فى العـراق والشام بمصطلح «دولة الخلافة الإسلامية»، ودعـا الجماعات الجهادية إلى مبايعة الخليفة الذى لقبوه بـ «أمير المؤمنين المفضال الكرار» وسموه أبا بكر الحسينى القرشى البغـدادى نسبة إلى قريش وبغـداد.

هنالك استشعـرت الولايات المتحدة حرج موقفها، فادعت أن مسئوليتها الأخلاقية تقتضى التدخل المباشر بعـد أن أصبحت الأزمة السورية قضية إنسانية فى المقام الأول، ولا أدرى أين كانت هذه المسئولية الأخلاقية حين قتلت أكثر من 100 مليون إنسان من سكان أمريكا الأصليين؟! وعـندما اختطفوا أكثر من 180 مليون أفريقى ليتخذوهم عـبيداً لهم ومات منهم أكثر من 150 مليوناً وألقوا جثثهم فى المحيط!! وعندما قاموا بإلقاء القنابل النووية التى ما زال اليابانيون يعانون من آثارها حتى الآن، ألم يتذكر الأمريكيون المسئولية الأخلاقية إلا عـندما إستولى التنظيم على آبار البترول؟ وهل يشكل هذا التنظيم الإرهابى دون غيره تهديداً خطيراً للسلم والأمن الدوليين حتى تدعـو إلى بناء مثل هذا التحالف؟ وهل يمكن أن تُؤدى الضربات الجوية فقط إلى تصفية هذا التنظيم أم تحتاج أيضا إلى ضربات برية؟ إن مجرد التفكير فى هذه التساؤلات دون الإجابة عليها يكشف زيف نوايا الولايات المتحدة.

ففى يقينى أن نواياها الرئيسية من توجيه الضربات الجوية (وربما ضربات صاروخية من البحر أيضاً) هى تدميـر البنية التحتية للمقدرة العـسكرية السورية (الاحتياطى الاستراتيجى ومراكز القيادة والسيطرة والدفاعات المضادة للطائرات ومستودعات الذخائر الرئيسية) إذ لن يكون هناك حـد فاصل بين هذه الأهداف وبين مناطق تمركز ميليشيات داعش، ثم استبدال هذه الميليشيات بعد تصفيتها بميليشيات مسلحة أخرى، حيث عـرضت تدريب وتأهيل 5 آلاف مقاتل من المعارضة المعـتدلة لمدة عام كامل وكانت تأمل زيادتهم إلى 10 ـ 15 ألفاً، الأمر الذى يعـنى أن تصفية داعش تستلزم مدة زمنية لا تقل عن عام، ويعـنى أن الولايات المتحدة تنوى أيضاً تدمير القدرة الاقتصادية والاجتماعة لسوريا، لتأجيج الفوضى وإسقاط سوريا من الداخل وتفتيتها بما يتسق مع منظورها «الجيوبوليتيكى» تحت زعم تصفية داعش.. وللحديث بقية فى الأسبوع القادم بإذن الله.

أستاذ العلوم السياسية بجامعة بورسعيد