رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التحالفات الحزبية.. والاستقرار السياسى


هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.

ولابد من استيعاب دروس الماضى وإدراك حقائق الموقف الراهن حتى نتمكن من استشراف المستقبل، والإيمان بأن ذلك لن يتحقق فى غياب الاستقرار المنشود والذى بدونه ستظل مصر عرضة للتوترات، وربما ستظل كذلك دوماً ما لم يتحقق مثل هذا الاستقرار.

تشير تفاعلات المشهد السياسى الراهن إلى بروز ظاهرة نشأة وتكوين التحالفات الحزبية المضادة، وتعد هذه الظاهرة تحولاً مهماً فى حركية ونضج العمل السياسى فى مصر، فقد تؤدى هذه التحالفات إلى إثراء الحياة الحزبية ونضج الفكر السياسى، إذ سيؤدى هذا التحول إلى نشأة وارتقاء أحزاب قوية قادرة عى المنافسة بكوادرها وبرامجها، ويجعل الشعب أمام بدائل حقيقية يمكن أن يختار من بينها الأفضل بما يتناسب مع كل مرحلة من مراحل العمل السياسى، وبما يكفل للدول النماء والازدهار المستمر وتحقق لها المكانة الإقليمية ودورها الريادى فى قيادة تفاعلات نسقها الإقليمى واستعادة قيمتها الحضارية ووزنها الدولى، كما سيهيئ هذا التحول أفضل الظروف لتحقيق الاستقرار السياسى والوصول إلى نقطة الانطلاق السليمة على طريق الديموقراطية، وبالتالى فإنه يمكن القول بأن نشأة وارتقاء التحالفات قد تؤدى إلى وجود حزبين قويين أو أكثر بما يتماشى مع مفاهيم أدبيات العلوم السياسية التى تصنف الدول من حيث الأحزاب إلى ثلاثة أنواع، الأول يمثل فى الدول ذات الحزب واحد، والثانى الدول ذات الحزبين، أما النوع الثالث فهى الدول متعددة الأحزاب.

ولا تمنع هذه التصنيفات من وجود أحزاب قزمية مع الأحزاب الرئيسية فى دول النوعين الثانى والثالث، ولعل أفضل الدول من حيث الأحزاب هى التى يمكن تصنيفها على أنها من الدول ذات الحزبين تحقيق بعض الاشتراطات حتى يمكن تصنيف الدولة على أنها من الدول ذات الحزبين، إذ يشترط أولاً ألا تكون هناك معرفة مسبقة أى الحزبين سيفوز فى الانتخابات، وبالتالى يترتب عليه الشرط الثانى وهو إمكانية التداول الحقيقى للسلطة، أما الشرط الثالث فهو ضمان قدرة كل حزب على تشكيل الحكومة بمفرده، فهل يمكن لهذه التحالفات والتحالفات المضادة تحقيق ذلك؟، أو بمعنى آخر أكثر تحديداً، هل يمكن للتحالف الذى يجرى الإعداد له تحقيق التوازن والتكافؤ مع تحالف التيار الإسلامي؟ وهل سيؤدى هذا التوازن والتكافؤ فى حالة حدوثه إلى تحقيق الاستقرار السياسى المنشود؟.

وقبل الإجابة عن هذه التساؤلات فإنه يتعين تعريف مفهوم الاستقرار السياسى، حيث يمكن تحديده بأنه وصف لحالة تعادلية بين جميع القوى التضادة المؤثرة فى دولة ما، والتى تسعى إلى تحقيقها بقدرتها الذاتية، أو بالتحالف مع غيرها من الدول لتحقيق استقرارها، وقدرتها على استعادة هذه الحالة التعادلية عندما تتغير إحدى هذه القوى سلباً أو إيجاباً لاستعادة وصيانة استقرارها، فعلى سبيل المثال فإنه يمكن تحقيق حالة الاستقرار فى السوق عندما يتعادل العرض مع الطلب، وفى اعتقادى الشخصى فإنه أحد أهم القوى التى تتعارض مع تحقيق الاستقرار السياسى فى الدولة هو عدم ترسيخ مفهوم الديمقراطية فى العقل الجمعى المصرى وضيق رقعة ممارستها فى المجتمع، وعدم قناعته الكاملة فى حتمية نبذ العنف وتجنب التظاهر والاعتصام والاحتجاج الذى تسعى القاعدة العريضة من الشعب إحداثها دون وعى أو إدراك للتعبير عن قضية ما «قضية الإساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام على سبيل المثال»، وربما يؤدى عدم ترسيخ مفهوم الديمقراطية إلى استبداله بمفاهيم وأفكار مرتبكة تأتى بسلوكيات منحرفة تتنافى مع القيم والمبادئ والأعراف، الأمر الذى أدى إلى أن يكون الشأن المصرى أقرب إلى الفوضى والهوجة السياسية والارتباك، مما أدى بالتالى إلى استغلال مرضى القلوب وضعاف العقول إلى تبنى العنف كوسيلة للتفكير والتعبير وربما التغيير.

كما تعتبر ظاهرة الانقسام والتفرق بل والتشرذم أحد أهم التحديات والإشكاليات الحقيقية التى توجه تحقيق الاستقرار السياسى للدولة، إذ لا يمكن لأحد أن يتصور أن هناك دولة تسعى إلى إعادة بناء وتأسيس هياكلها المؤسسية على نحو ديمقراطى، وإحداث تنمية حقيقية لقدراتها الشاملة وتعبئتها وحشدها لتحقيق توازن مكانتها واستعادة هيبتها الإقليمية ووزنها الدولى، أن يحتوى هيكلها السياسى على أكثر من مائتى ائتلاف وأكثر من ستين حزباً «كل حزب بما لديهم فرحون» وأكثر من أربعة آلاف جمعية يتلقى أغلبها التمويل من الخارج، كل جمعية لها مصالحها وأهدافها التى غالباً ما تتشابك أو تتعارض مع الآخرين ونادراً ما تتوافق مع بعضها.

ويأتى التراجع الاقتصادى الخطير على قمة قائمة القوى المتضادة الذى يلزم مواجهته لتحقيق استقرار الدولة، خاصة فى ظل حالة الفوضى والانفلات السلوكى والانكشاف الأمنى، وحالة علم الرضا والتظاهرات والاعتصامات الفئوية، والتى يتعين على جميع النخب السياسية والإعلامية والحزبية التى أفرزتها الثورة العمل عى توضيح الرؤية عن أهمية بناء مشروع وطنى يمكن أن يلتف حوله عموم الشعب المصرى بجميع أطيافه وطبقاته، مع طرح الأفكار التى تهدف إلى تعزيز المقدرة الاقتصادية للدولة المتأثرة بالسلب يوماً بعد يوم، حتى يمكن الانتقال بالدولة إلى بر الأمان بدلاً من الاستغراق فى حالة الفوضى والتوهان التى يريدها البعض لإحداث الإرباك العام وإسقاط الدولة من الداخل.

ولما كان دستور الدولة هو الذى يقرر نظامها السياسى والاقتصادى والاجتماعى لفترة زمنية ممتدة فقد يمثل تشكيل اللجنة التأسيسية الثانية لإعداد وصياغة الدستور الإشكالية الكبرى أمام تحقيق الاستقرار السياسى، ذلك أنها معرضة للحل بحكم قضائى، كما تمثل عملية الفصل الدقيق والحقيقى بين السلطات أهم إشكاليات بناء المؤسسات الديمقراطية للدولة، فإذا كان الفصل السليم بين السلطات واجباً، فإن التنسيق بينها ضرورة لإحداث التوازن والتكامل بما يؤدى إلى تفعيل الرقابة المتبادلة بينهما، وعلة الفصل بين السلطات يرجع إلى اختلاف طبيعة وتكوين واختصاصات كل منها، فالسلطة التشريعية تأتى بالاقتراع المباشر من الشعب باعتبار أن الشعب وحده هو مصدر السلطات، وتختص السلطة التشريعية بوضع القاعدة القانونية، أما السلطة التنفيذية فهى المسئولة عن توفير الأمن وحفظ النظام بما يكفل لجميع أفراد المجتمع الحماية، كما تعتبر هى المختصة بتنظيم كل شئون هذا المجتمع، أما السلطة القضائية فتختص بالتطبيق العادل للقاعدة القانونية دون انتقائية بما يؤدى إلى تحقيق العدل والمساواة بين الجميع، ولذلك يتعين فى جميع الحالات بقاء السلطة القضائية مستقلة، ولما كانت جميع السلطات تخضع لإرادة الشعب باعتباره هو وحده مصدر السيادة، فإن عليه أن يتنازل عن بعض حرياته للنخبة فى مقابل تنظيم شئونه بإرادته حتى يمكن تحقيق الاستقرار المنشود.

وصفوة القول، فإن الاستقرار المنشود سيظل مرهوناً بمواجهة وإحداث حالة التعادل بين جميع القوى المتضادة، فإذ أردنا نحن المصريون تحقيق هذا الاستقرار فعلينا بجميع طبقاتنا أن ندرك أننا المسئولون وحدنا عن تحقيقه، وأن هذا الاستقرار لن يأتى تلقائياً أو بالاعتماد على قدرات الآخرين، وإنما يتحقق فقط بقدراتنا الذاتية والسعى الدءوب لبناء مصرنا القوية على نحو ديمقراطى حديث، ولعل ذلك يتطلب تغييراً جذرياً واستعداداً فكرياً مختلفاً، ومنظوراً جديداً لتناول الأمور، ولابد من استيعاب دروس الماضى وإدراك حقائق الموقف الراهن حتى نتمكن من استشراف المستقبل، والإيمان بأن ذلك لن يتحقق فى غياب الاستقرار المنشود والذى بدونه ستظل مصر عرضة للتوترات، وربما ستظل كذلك دوماً ما لم يتحقق مثل هذا الاستقرار.

■ أستاذ العلوم السياسية.. جامعة بورسعيد