رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العـراق بين التدخل والتقسيم «1»


يشير الواقع إلى أن العـراق يمثل أهـمـيـة جيوستراتيجية كبرى لإيـران، فمن حيث الجغرافيا فهو يشاركها الإشراف والسيطرة عـلى الخليج العـربى ومضيق هـرمز وخليج عـمان، ويُمثل الخط الفاصل بين القوميتين المتنافستين العـربية والفارسية،

شهد العـراق منذ الحرب العـراقـيـة الإيـرانـيـة أحداثا جساما تميزت بسرعة وكثافة وتراكم تفاعلاتها، وهى الحرب التى أسعـدت الولايات المتحدة كثيرا حيث وجدت أقوى خصمين فى منطقة الخليج يتقاتلان فى حرب لا تبقى ولاتذر ولن تنتهى بغالب أو مغـلوب، ثم قامت باحتلال العراق بدعوى مناهـضة استبدادية نظامه الشمولى وإقامة نظام ديمقراطى يدعم الحرية وحقوق الإنسان، فادعـت كذبا وعـدوانا امتلاكه للرادع النووى، فعـبأت الرأى العام العالمى وحشدت تحالفا دوليا لم تشهده البشرية من قبل، وغـزت العـراق وخلصته من حاكمه السنى الطاغـية وأتت بالمالكى لينتصر للشيعة، ويترك الحبل للأكراد على الغارب حتى يتمكنوا من تأسيس وبناء دولتهم تحت صمت تركى مريب، ولا ينقص هذه الدولة إلا الإعلان عنها واعـتـراف الولايات المتحدة بها فورا، ثم قامت بتسريح الجيش العـراقى الذى اكتسب خبرة وكفاءة قتالية عالية من حربى الخليج الأولى والثانية، وأعـدَت دستورا أجوف وقامت ببناء جيش بلا عـقيدة، وبالرغم من تفوقه على ميليشيات تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام عـددا وعـدة، إلا أنه فر من أمامها حتى تمكنت من السيطرة على الموصل ثانى أكبر مدينة عراقية، وعلى محافظة صلاح الدين وديالى وتلعـفـر التابع لمحافظة نينوى حتى وصلت بعـقوبة على مسافة 60 كيلو متراً شمال شرق بغـداد.

وبالرغم من أن الولايات المتحدة قد أرسلت حاملة طائرات وسفينة حربية إلى مياه الخليج لحماية ونقل رعاياها من العراق، إلا أن القائد السياسى الأكثر فشلا فى إدارة شئون أقوى دولة فى العالم والمسئول عن توطين الجماعات الإرهابية فى الوطن العربى أبى كعادته تحمل مسئولياته، حيث أعـلن بعـد التشاور مع الكونجرس استبعاد خيارالتدخل العسكرى أو إرسال قوات عـسكرية أمريكية إلى العـراق، وأعـلن أنه يدرس مع إيران إمكانية تدخلها لحل الأزمة العـراقية والتفاهم مع تنظيم الدولة الإسلامية فى العـراق والشام، وهو ما يوضح لنا لماذا أقدمت الولايات المتحدة على سرعة التوصل للتسوية التاريخية التى تتعلق بالقضية النووية الإيرانية فى أقل من أربعـة أيام، وهى التى استمرت فى مفاوضات مضنية لأكثر من عـشر سنوات كاملة دون التوصل إلى حل، بينما كانت المستشارة الألمانية «ميركل» أكثر جرأة وصراحة عـندما أعلنت أن الولايات المتحدة تتحمل الجزء الأكبر مما يحدث فى العـراق، وعـليها أن تتحمل مسئوليتها الكاملة نحو تحريـر العراق من الجماعات الإرهابية، أما الرئيس الإيرانى «حسن روحانى» فقد صرح بأن إيران مستعـدة لتقديم الدعم للعـراق إذا طُلب منها ذلك، بل ذهب أبعـد من ذلك حين أعـلن أن إيـران مستعـدة للتعاون مع الولايات المتحدة لتلعـب دورا فاعلا فى المنطقة لإعادة هيكلتها وتشكيلها بما يتسق مع تحقيق مصلحتيهما، فهل يمكن أن تتدخل إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة وبالأصالة عـن نفسها؟ وما أهمية العراق بالنسبة لإيران؟.

فى الواقع فإن مصطلح التدخل يُعـد تعـبيـرا بسيطا فى أدبيات اللغـة، لكنه يـُعـد مصطلحا مركبا فى أدبيات العلوم الاستراتيجية، إذ يُعـبر عـن تفوق جميع عـناصرالقـوة الشاملة لدولة ما، وقدرتها على استخدامها أو التهديد باستخدامها لصيانة مصالحها، حيث تختلف أنماط التدخل تبعا لمتغـيرالقـوة ووفقا لعـاملين، الأول هو درجة تركيـز عـناصر القوة لدى الدولة المعـنية، والثانى هـو طبيعة وحدود استخدام عناصر القوة أو عـنصر منها أو أكثر ضد الدولة الأخرى.

كما يشير الواقع إلى أن العـراق يمثل أهـمـيـة جيوستراتيجية كبرى لإيـران، فمن حيث الجغرافيا فهو يشاركها الإشراف والسيطرة عـلى الخليج العـربى ومضيق هـرمز وخليج عـمان، ويُمثل الخط الفاصل بين القوميتين المتنافستين العـربية والفارسية، ومن حيث التاريخ فإن إيــران تعـتبر العـراق جــزءا مـنـها، ولذلك تسعـى حثيثا إلـى اسـتعـادته خاصة مدينة الطـيسفونج «المدائن حاليا» عـاصـمة الإمبراطـوريــة الـفـارسيـة، ومن الزاوية الاقتصادية فإنها تعـتبر العـراق بمثابة سهل الهضـبة الإيرانية الذى يمكن أن تتكامل مـنـتجاته الزراعـية والغـذائية مع منتجات الهضـبة، بالإضافة إلى أنه يمتلك مخزونا هائلا من الاحتياطى المؤكد من الزيت الخام، والذى يمكن أن تصبح به قوة اقتصاديـة كبيرة عـند إضافـتـه إلى مخزونها، أما من الزاوية الاجتماعـية فيمثل العـراق لإيران أهمية خاصة، إذ يحـتـوى عـلى العـتبات الشيعـية المقـدسة التى يحج إليها الشيعة الاثنى عشرية، فهل يمكن أن يُسفر تدخل إيران إلى ضم العراق إليها أم يؤدى إلى تفتيته كبداية لتحقيق المشروع الأمريكى لتشكيل الشرق الأوسط الكبير؟ أم يُؤدى إلى الصدام وتأجيج الخلاف بينهما مرة أخرى؟هذا ما سأتناوله فى المقال القادم بإذن الله.

أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد