رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحفرة

محمد عبدالحليم غنيم
محمد عبدالحليم غنيم

قال وردزورث: 

- يجب عليك حقًا أن تراه قبل أن تذهب. إنه ليس بالشىء الذى لا ينبغى أن يفوتك. هذا بالطبع، إذا كنت تجرؤ... 

كان وردزورث يميل إلى الانزعاج قليلًا فى الصباح الباكر عندما كان الأشخاص الوحيدون الذين بقوا فى حانة فندق «جراند دى واجون- ليتس» ليسوا سوى الرجال غير المتزوجين ومدمنى الكحول. فى الواقع، لم أستطع تحمل هذا الرجل، كانت غطرسته وتفوقه مزعجة للغاية، ولكن فى بكين عام ١٩٣٧ لم يكن هناك الكثير من الناس الذين يمكن للمرء أن يتناول مشروبًا معهم. كان اليابانيون يعسكرون على بعد بضعة كيلومترات خارج المدينة ويستعدون للغزو. وكانت الحكومة قد نقلت العاصمة. كان الغربيون يغادرون. القلائل منا الذين بقوا عاشوا محبوسين فى حى المفوضية. الخروج ليلًا كان يعتبر انتحارًا، ومع ذلك قلت له:

• خذنى إلى هناك، هيا نذهب الآن.

قال وردزورث وسط سحابة من دخان السجائر: 

- لا تجعلنى أخرج السيارة إذا كنت ستتراجع.

فقلت:

- ألم تسمعنى؟ هيا نذهب.

فى ذلك الوقت، كان الجميع يتحدث عن نادى اللوتس. قيل إنه الأكثر تميزًا فى بكين، ولكن لهذا السبب بالذات لن يعترف أحد بأنه عضو. كان النادى أسطوريًا جدًا، لدرجة أننى اعتقدت أنه غير موجود. ومع ذلك، فإن وردزورث، الذى كان مخمورًا، كشف للتو عن أنه عضو بالنادى وعرض أن يأخذنى.

حذرنى قائلًا: 

- هناك شرط واحد فقط، وهو أن تقسم ألا تخبر أحدًا عما يحدث هناك.

سألت: 

- لماذا؟ ماذا يحدث هناك؟ وهل هذا مهم جدًا؟ 

أجاب وردزورث بغموض:

- لقد أقسمت ألا أكشف عنه أبدًا.

- ماذا لو حنث أحد الأعضاء بقسمه؟ 

قال مبتسمًا: 

- لن يفعل ذلك أبدًا.

كنت سأغادر، أيضًا، فى اليوم التالى. لقد قمت للتو ببيع جميع أعمال عائلتى فى المدينة. كانت خطيبتى مينا، التى كانت عائلتها ثرية للغاية، تنتظرنى فى لندن. ومن ثم أعددت نفسى لحياة مريحة ولكن مملة. سأفتقد أوكار بيع الأفيون المهرب من منشوريا، وكباب العقرب، والبغايا الكوريات. لذلك فى تلك الليلة لم يكن لدى أى نية للذهاب إلى السرير. أردت أن أستمتع بكل ثانية باقية لى فى بكين، أردت المغامرة، وافقت على شروط وردزورث.

قال وردزورث وهو يُطفئ سيجارته فى منفضة سجائر خزفية فخمة: 

- حسنًا، سآخذك، ستكون هدية فراق، أعتقد أنك تستحق ذلك.

جلسنا فى سيارته البيضاء Voisin، وخرجنا من حى المفوضية ودخلنا الصين الحقيقية المليئة بالفوانيس الورقية الحمراء والدوريات العسكرية. توجه وردزورث إلى الأزقة القريبة من المدينة المحرمة وتوقف أمام مبنى رمادى صامت.

سأل وهو يوقف المحرك:

- هل أنت متأكد؟

أومأت بالموافقة.

دخلنا إلى زقاق بائس ملىء بالمنحنيات والشوك، كان القمر ساطعًا فى تلك الليلة، وتقدمنا دون صعوبة. وفى بعض الزوايا كان هناك متسولون نائمون، ارتعش أحدهم بشدة عندما اقتربنا منه، واكتشفت أنه مصاب بالشلل، لكنه لم يحاول أن يمنعنا من المرور. وسمعت أيضًا نباح بعض الكلاب البرية، وصوت انقباض فكيها على شىء ما، مع أننى لم أتمكن من رؤيتها.

توقف وردزورث عند باب بدا وكأنه الباب الأكثر بؤسًا فى الشارع، وكنت أخشى أن تكون زيارتى للنادى فاشلة، وكر قذر لأصحاب الملايين الذين يشعرون بالملل، لكننى بقيت صامتًا. طرق رفيقى خمس مرات، وبدا أن الهواء من حولنا قد تجمد. فتح أحدهم مصراعًا على الجانب الآخر. وفى نهاية انتظار قصير ومؤلم، وصل إلى أذنى صوت خافت جدًا من خشخشة الكئوس والضحك. لم يقل وردزورث شيئًا، لكنه أشار بيده، كنوع من كلمة المرور الخفية، وفتح الباب.

دخلنا أفخم غرفة رأيتها فى حياتى، وكانت الثريات الكريستالية تتدلى من السقف، الذى كان مرتفعًا جدًا بشكل مدهش، وكأن البيت من الداخل أكبر من الخارج. كانت الجدران مغطاة بالرخام والمرايا ذات الإطارات الذهبية. وأقيم حفل كوكتيل فى هذه الأجواء الرائعة. كان الرجال يحملون كئوسًا من الشمبانيا، وكانت السيدات متألقات ومزينات بالماس والفراء. تعرفت على السفير الفرنسى ورئيس الشرطة وبعض جنرالات الكومينتانغ وبعض الروس البيض الأثرياء. لو كان شيانج كاى شيك هو من أقام الحفلة بنفسه، فسيكون هؤلاء هم الضيوف.

مشيت أنا ووردزورث بين الضيوف، وتفاجأ بعضهم برؤيتى ورحبوا بى ترحيبًا حارًا، لكنهم لم يثيروا إعجابى بشكل خاص. وفى غضون أربع وعشرين ساعة فقط لن يعنوا لى شيئًا. 

همست فى أذن وردزورث:

- أهذا كل شىء؟ نادى جراند لوتس؟ لدينا حفلات أفضل فى منطقتنا.

- ليس لديك الصبر، إيه؟ 

وبخنى.. ثم التفت إلى النادل الذى يحمل صينية الويسكى وسأل:

- صديقى يريد رؤية الحفرة. 

وضع الصينية على إحدى الطاولات وقادنى إلى فناء مركزى، ثم إلى قاعة أخرى مزينة بشكل لا طعم له بالمزهريات الخزفية والتنانين. وأخيرًا توقف أمام الغرفة، وفتح الباب، ودعانى للدخول.

لم يكن هناك أثاث فى الغرفة، لم يكن هناك سوى مصباح ورقى أحمر يتدلى من منتصف السقف، وتحته حفرة.

ركعت لإلقاء نظرة خاطفة، كان عمق الحفرة حوالى خمسة أمتار، وفى قاعها كان هناك رجل يجلس مقيد اليدين والقدمين، اعتقدت أنه سيكون يابانيًا أسيرًا، وقد ظهر عليه المرض والبؤس، بكى، ناديت عليه:

- مهلًا! من وضعك هناك؟

بدا الرجل وكأنه عاد إلى الحياة، هز يديه ورأسه، وجلجلت السلاسل.

- من فضلك، أخرجنى من هنا، أنقذنى من هؤلاء الناس، إنهم مجانين.

كان يتحدث بلهجة لندن، فى الواقع بدا مألوفًا. بدأت عيناى تعتاد ببطء على ظلمة الحفرة، وعندها فقط رأيته بوضوح، خفت: كنت أنا نفسى.

واصل التوسل قائلًا: 

- سوف يأتون فى أى لحظة! 

كان يرتدى نفس ملابسى، وكان له وجهى وشعرى، لقد كنت أنا، كل شبر منى، كما فى المرآة الجهنمية.

- من فضلك أخرجنى من هنا، سوف أدفع لك كل ما تطلبه من أموال.

لقد رفضت سماع المزيد، ركضت خارجًا من الغرفة، وعبرت الشرفة، وسرت عبر الحفلة، لقد ضللت طريقى فى متاهة الشوارع، لكننى وجدت طريقى للخروج فى النهاية، وواصلت الركض فى ضوء الصباح حتى عدت إلى فندقى.

وبعد يومين دخل اليابانيون بكين.

ولم أعد إلى المدينة مرة أخرى.