رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيلان بابيه: أكبر سجن على الأرض «4»

بعد أن استعرضنا فى المقالين السابقين كتابَى البروفيسور «إيلان بابيه»، المعنونين بـ: «التطهير العِرقى فى فلسطين»، و«عشر خرافات عن إسرائيل»، نلقى نظرة على كتابه المهم الثالث: «أكبر سجن على الأرض: سردية جديدة لتاريخ الأراضى المحتلة» ٢٠٢٠، الذى صدرت طبعته الأساسية بالإنجليزية تحت عنوان: «The Biggest Prison on Earth» عام ٢٠١٧، مهداة إلى «أطفال فلسطين الذين ذاقوا القتل والجرح والتعنيف، لأنهم يعيشون فى أكبر سجن على الأرض».

ويمكن اعتبار هذا الكتاب القيِّم صرخة تنبيه صادقة، مستبقة لأحداث «طوفان الأقصى»- ٧ أكتوبر ٢٠٢٣- ومُتنبئة بأن أحوال هذه البقعة من أرض فلسطين، المكتظة بالناس والآلام، والعامرة بصنوف القهر والبؤس والاضطهاد، والمثقلة بشتى ألوان المعاناة والإذلال، والمُوصَّفة باعتبارها: «أكبر سجن على الأرض»- لا يمكن أن تظل طويلًا دون انفجار، متحملة ما هى عليه من أوضاع غير إنسانية، وغير مسبوقة على مستوى الإجحاف وممارسات التمييز العِرقى والقهر الاجتماعى والسياسى، والاضطهاد والقتل والتنكيل.. لكنها- ككل الصرخات الصادقة القليلة، المماثلة، الصادرة عن نفرٍ من أصحاب الرؤية النافذة، والضمير الإنسانى الحى- ذهبت أدراج الرياح، وقوبلت بالإهمال والتجاهل، وإدارة الظهر ممن بيدهم مفاتيح الموت والحياة فى عالمنا الظالم، بمعاييره المزدوجة، وغطرسة القوة المسيطرة، وهيمنة دول الحلف الإمبريالى الغربى، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، الصانع والراعى الرسمى للكيان الصهيونى.

ويذكر «بابيه» أن خطة وضع اليد على باقى الأرض الفلسطينية لم تكن نشازًا أو منفصلة عن المسار، وإنما كانت «ضمن سياق تاريخى أوسع» يجسِّد تطلُّع النخبة العسكرية والسياسية الإسرائيلية منذ سنة ١٩٤٨، وكانت محاولات تنفيذ هذا الأمر مطروحة فى خلفيات «العدوان الثلاثى»، البريطانى الفرنسى الإسرائيلى على مصر عام ١٩٥٦، وأفشلتها بسالة المصريين فى المواجهة، كما أن الخطط العملياتية لاحتلال القطاع كانت مهيأة قبل وقوع حرب ١٩٦٧ بأربع سنوات، أى منذ عام ١٩٦٣، حيث انطلق النقاش حول «كيفية إدارة المناطق العربية المحتلة»، وأعدَّ الجيش الصهيونى «بنية تحتية، قضائية وإدارية، للتحكم بحياة مليون فلسطينى»، كانت جاهزة للتنفيذ متى سمحت الظروف.

كما كان هناك أيضًا ترقب للحظة التاريخية المناسبة لاحتلال الضفة الغربية، «التى كانت تحت الإدارة الأردنية»، حيث دفع حال عدم الاستقرار المتفاقم فى الأردن قادة الأركان إلى التحضير الجدى لاحتمال سقوط المملكة الهاشمية، ما قد يقود إلى نشوب حرب محتملة مع إسرائيل. وكانت خطة تنفيذ هذه التوجهات، التى أُطلق عليها اسم «جرانيت»، «أكثر المخططات تنظيمًا وتفصيلًا بين كل الاستعدادات الإسرائيلية التى سبقت حرب ١٩٦٧، والخاصة بكيفية إدارة عملية احتلال وحكم الضفة الغربية وقطاع غزة.

والمدهش، ومما له أكثر من دلالة، كما يذكر «بابيه» تفصيلًا، أن المراجع التى استند لها الكيان الصهيونى لترسيم فلسفة وآليات إدارة المناطق الفلسطينية المزمع احتلالها، وفق هذا التصور، أُعدت «قبل احتلال ألمانيا عام ١٩٤٥، أو استندت إلى دروس مستقاة من ذلك الاحتلال»، وهو أمر يعكس أواصر العلاقات المتداخلة والخفية بين النازية والصهيونية. 

وكرر الحكم العسكرى الصهيونى للمناطق والسكان فى غزة والقطاع ممارسات الحكم العسكرى البريطانى وقت الانتداب على فلسطين قبل «النكبة»، والتى كانت الجماعات العسكرية الصهيونية المسلحة آنذاك، «الهاجاناه، و«شتيرن» وغيرهما، ترفضها وتقاومها، باعتبارها تشريعات وإجراءات «نازية، وتمثل أنظمة لا مثيل لها فى أى بلد متنور، وبأن ألمانيا النازية ذاتها لم تفرض مثل هذه الأنظمة».

وهذه التشريعات كانت تسمح للحاكم بطرد السكان، وتعطيه الحق باستدعاء أى مواطن إلى قسم الشرطة فى أى وقت يشاء، وتجيز «الاعتقال الإدارى»، أى الاعتقال لمدة غير محدودة دون إبداء السبب أو توفير فرص المحاكمة العادلة، وأصبحت هذه الممارسات بعد احتلال سنة ١٩٦٧ أمرًا مألوفًا ومنهجًا متبعًا فى قمع الفلسطينيين المحبوسين داخل الكيان الصهيونى؛ كما كان من حق الحاكم العسكرى اللجوء إلى «تدابير احترازية»، كان أكثرها شيوعًا إعلان قرى فلسطينية بأكملها «مناطق عسكرية مغلقة»، كلما وردت معلومات مسبقة إلى جهاز الأمن العام الإسرائيلى، المعروف بالعبرية بـ«الشين بيت» أو «الشاباك»، عن اجتماع مزمع أو عن تظاهرة محتملة. وقد ظل هذا الإجراء الإرهابى موضع تطبيق باستمرار لإسكات أصوات الاحتجاج الفلسطينى فى الأراضى المحتلة بالضفة والقطاع حتى يومنا هذا. 

كما أصبح «قانون الطوارئ»، الذى فرضه الانتداب، يشكل أساس البنية القانونية للمحاكم العسكرية، تلك المؤسسات التى سيمثل أمامها مئات الآلاف من الفلسطينيين، ويرسلون لمعاناة شتى أنواع التعذيب والإساءات التى نادرًا ما كانوا يخرجون منها سالمين، فالقضاة كانوا كلهم ضباطًا فى الجيش، معبأين أيديولوجيًا وعقائديًا ضد الفلسطينيين، وكانت المحاكم العسكرية لها الحق بإصدار أحكام بالإعدام، أو إنزال عقوبة الحبس المؤبد بلا حرج. 

حدث هذا كله، كما يحدث ما يجرى اليوم فى غزة وسائر الأراضى الفلسطينية السليبة والمحاصرة، تحت سمع وبصر المجتمع الدولى، الذى بدا أنه يرفض احتلال أراضى الغير بقهر القوة وتعسفها فى شتى بقاع العالم عدا فلسطين.. «فرسالة العالم المتنور كانت واضحة ولا لبس فيها: إن سلب الفلسطينيين ممتلكاتهم على يد الإسرائيليين والاستيلاء على معظم أرض فلسطين، كانا شرعيين ومقبولين»!!!.. «يتبع».