رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ألمانيا وإسرائيل: "هتلر" ينهض من رقدته!

لفت الأنظار في الفترة الأخيرة، الموقف الألماني، من الصراع بين الشعب الفلسطيني، وأهل غزة على وجه التحديد، وبين القوات العدوانية الصهيونية الغاشمة، التي راحت تدك الديار والملاجئ والمُستشفيات والمدارس على رؤوس قاطنيها، وتقتل وتصيب عشرات الآلاف بلا رحمة أو تمييز، في حرب إبادة فاجرة، أدانتها شعوب العالم أجمع، ورفضتها كل المحافل السياسية والإنسانية.
وإذا كان البعض، وقياسًا إلى عِبرة ودروس التاريخ النازي الذي قاد العالم إلى حرب عالمية طاحنة، كلّفت البشرية، وفي مُقدمتها الشعب الألماني ذاته، تكاليف باهظة: ملايين الضحايا، ودمار شامل، وتقسيم للوطن والشعب وآلام ومآسٍ بلا حدود، قد توقّع أن يكون الموقف الألماني بالذات، أكثر حساسيةً ورفضًا للممارسات الصهيونية اللا إنسانية، وأن ينحاز للحق، الذي هو أعلم به من غيره من الدول والشعوب، بفعل المُمارسات النازية التي دفع العالم ثمنها، ولازالت شعوبنا، والشعب الفلسطيني، على وجه التحديد، تُسدد، دون مُقتضى، تكاليفها الباهظة! أتى السلوك الألماني الرسمي على العكس تمامًا، حيث ساندت الدولة الألمانية العدوان الإسرائيلي المُمتد منذ أكثر من 135 يومًا، بإمدادات السلاح والذخيرة، والموقف السياسي، وبالدعم الاقتصادي، وأخيرًا بمساندة حربها الإجرامية أمام محكمة العدل الدولية، وهو موقف لم يتخذه إلّا بعض شواذ الدول، وتوابع الأنظمة!
وقد دفع هذا الموقف الناشز العديد من الناقدين له، إلى النبش في أضابير الذاكرة الإنسانية، بحثًا عن الصلة بين تاريخ الحركتين النقيضتين ظاهرًا، والمُتعاونتين باطنًا: الصهيونية والنازية، وهو موضوع يحتاج إلى عرضٍ مُنفصلٍ وافٍ، وأيضًا ــ وهي قضيتنا الآن ــ طبيعة المُمارسات العنصرية الألمانية، حتى من قبل وصول النازية إلى حكم الدولة الألمانية في بدايات عام 1933، وسلوكها الإجرامي تجاه شعوب المُستعمرات التي تسلَّطت عليها، فسامتها أشكال العذاب والمهانة، وأذاقتها ألوان النهب والاستغلال، ومنهاـ على سبيل المثال ـ شعب "ناميبيا" الأفريقي!
تذكر وقائع التاريخ أن الاستعمار الألماني قد ترسّخت أقدامه في "ناميبيا" غداة عقد "مؤتمر برلين" (في 1884 ــ 1885)، الذي  نظـَّم وجود الاستعمار الأوروبي وتمدد التجارة الأوروبية في إفريقيا أثناء فترة "الإمبريالية الجديدة"، بالتوازي مع الصعود المفاجئ لألمانيا كقوة إمبراطورية. 
وقد عُقد المؤتمر، بقيادة "أوتو فون بسمارك"، أول مستشار لألمانيا، وشاركت فيه 13 دولة أوروبية هي: ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، والنمسا، والمجر، وبلجيكا، والدنمارك، والسويد، والنرويج، وإسبانيا، وهولندا، وإيطاليا، والبرتغال، كما حضرته الولايات المتحدة، بصفة مراقب، وحضرته أيضًا الدولة العثمانية، بلا دور يُذكر؛ لإضفاء الطابع الدولي عليه، كما يقول الباحث "أحمد بن صالح الظرافي"، (مدونات "الجزيرة"، 19 يونيو 2020)، وكان المؤتمر: "أشبه باجتماع زعماء العصابات (المافيا) لتوزيع الغنيمة من المواد المسروقة، التي اشتركوا في سرقتها معًا، وكل منهم يريد أن يكون نصيبه هو الأكبر من تلك الغنيمة" (المصدر نفسه)!
واستهدف المؤتمر توصُّل الدول الاستعمارية الأوروبية المُجتمعة إلى توافق بشأن اقتسام مناطق النفوذ في القارة الأفريقية البكر، باعتبار هذا الأمر يُمثل ضرورة وجودية للبلدان الاستعمارية الرأسمالية النامية، تتجاوز من خلاله مغبّة تَفَجُّرالصراعات بينها على الأرض والبشر والثروات الطائلة، وتُحقق الاستفادة القُصوى من توفُّر الأيدي العاملة الرخيصة، والمواد الخام الهائلة، والثروات الضخمة الدفينة في القارة البكر الشاسعة المساحة.
وفي هذا المؤتمر تم إقرار حق ألمانيا في الاستيلاء على جنوب غرب إفريقيا، ومواقع أخرى، وتحويلها إلى مستعمرات تحت النفوذ الألماني، بدعوى تطبيق مبدأ "الحماية"، الذي يمنحها (الحق) في الزود عن مصالح المستثمرين الألمان والتُجَّار الاقتصادية في المنطقة، مُعتبرة إياها ملكية خالصة، تحت مٌسمّى "ناميبيا الألمانية"، بناء على توقيع اتفاقات شكلية مع بعض قادة القبائل والزعماء المحليين من أهل ناميبيا الأصليين!
وسرعان، بمجرد تحقيق هذا الأمر، ما كشف الوحش الألماني المفترس عن أنيابه الحادة؛ وحقيقة أغراضه، فاستعبد السُكّان الأفارقة بالقوة والإكراه، وباستخدام كافة أشكال العُنف والهيمنة ـ ونُقلت أعدادٌ غفيرة منهم إلى ألمانيا للعمل تحت ظروف السُخرة في المزارع والمصانع ـ وتعرّض الناميبيون الأصليون إلى كافة أشكال الاضطهاد الجمعي، والعدوان البدني، والتعذيب الوحشي، والقتل المجاني، والاغتصاب، ومارس الاستعماريون الغربيون، وفي مُقدمتهم الألمان، كا يذكر الباحث "توفيق سلَّام"، (موقع عرب جورنال ــ 6 فبراير 2024): "جرائم حرب بشعة لا توصف، في حقبة هامة سُلبت وسُرقت ونٌهبت فيها ثروات القارة السمراء، وانتُهكت فيها كرامتها في كل بقعة، شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، بين آلية الاستعمار المُمنهج وعُنصرية الاستعباد الغاشم؛ وفوق هذا وذاك نهب الثروات، وبيع البشر في مزادات العالم العلنية دون أسف أو حرج"!
وفي الفترة من  1904 إلى 1908 قُتل عشرات الآلاف من أبناء شعبي "هيريرو" و"ناما" في "ناميبيا"، في مذابح ارتكبها الجيش الألماني، واعتبرها العديد من المؤرخين  "أول إبادة جماعية في القرن العشرين"، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 80 ألفًا من أبناء شعب "هيريرو" (البالغ إجمالي تعداده نحو مائة ألف مواطن!)، وحوالى 10 آلاف من أبناء شعب "ناما" (نصف عدد هذه القبيلة!). (المصدر نفسه).
وفي مواجهة الهبّات المناهضة للحكم الاستعماري الألماني، وتمامًا كما يفعل "نتنياهو"، و"يوآف جالانت" وزير الحرب الصهيوني في فلسطين؛ كانت أوامر الجنرال الألماني "فون تروثا": لجنوده، تقضي بممارسة كل أنواع القتل والتعذيب والتشريد بحق كل من يعارض الوجود الألماني في ناميبيا، بحيث "لا يلقى رجل ولا إمرأة ولا طفل ولا رضيع أي رحمة". كان القتل العمدي هو الوسيلة المثلى لإرهاب السكان. وكان يقول: "إنني أريد أن أتأكد أنه لم يحدث بعد ذلك قط ثورة من الهيريرو".
وبلغ من وحشية المُحتل الألماني أن وصل الأمر به إلى استخدام علماء وأطباء ألمان أجساد المُعتقلين داخل مراكز الاعتقال الجماعي كحقل تجارب، لإثبات نظرية تفوق العِرق الأبيض على العِرق الأسود، فحقنوهم بجرعات قاتلة من الأفيون والزئبق، لدراسة تأثير هذه المواد على جسم الإنسان. 
كما أجُبر المعتقلون في تلك الجزيرة على القيام بأعمال لا إنسانية، مثل سلخ لحوم أبناء قومهم، ممن سبقوهم إلى الموت، عن جماجمهم وعظامهم، وتنظيفها تمامًا، ونقل العظام والجماجم إلى ألمانيا، فضلًا عن قطع مسئولين عن مراكز الاعتقال رءوس آلاف من "الهيريرو"، وإرسالها إلى الجامعات والمعاهد الطبية الألمانية، ولا تزال ناميبيا تطالب بجماجمهم، وبقايا عظامهم وجثثهم، لدفنها في بلادهم (المصدر نفسه)!
كما تسبَّبت مواجهة القوة الغاشمة الألمانية لانتفاضة "ماجي ماجي"، في مُستعمرة ألمانية أخرى، "تنزانيا"، بين عامي: 1905 و1907، في وقوع نحو ربع مليون ضحية، قُتلوا بدمٍ بارد، لمجرد احتجاجهم على مُمارسات الاحتلال غير الإنسانية! وفي تلك الفترة المُمتدة ما بين عامي 1884 و1916، كان الاستعمار الألماني يٌهيمن أيضًا  على مناطق شاسعة في غرب إفريقيا، منها جمهورية "توجو" وأقسام من دولة "غانا" الآن، ولم يتوان المستعمر الألماني عن النهب المُنظَّم لثرواتها الثمينة الضخمة ومواردها الطبيعية الهائلة، على حساب الُسَّكان الأصليين وحقوقهم المشروعة.
وبعد مفاوضات مُرهقة، استغرقت ما يزيد علي خمس سنوات بحثت جرائم الاحتلال الألماني (1884- 1915)، اعترفت ألمانيا، في مايو 2021، بجرائمها في "ناميبيا" خلال  فترة الاحتلال، على لسان وزير خارجيتها، "هايكو ماس"، الذي أعلن أنه "في ضوء المسئولية التاريخية والأخلاقية لألمانيا، سنطلب الصفح من "ناميبيا"، ومن أحفاد الضحايا على الفظائع التي ارتكبت بحقهم"، مُعلنًا أن ألمانيا ستدعم "إعادة الإعمار والتنمية في "ناميبيا" عبر برنامج مالي قيمته 1.1 مليار يورو"، وشدَّدَ "ماس" على أن هذه الأموال "ليست تعويضات على أساس قانوني"!
فقط مليار ومائة مليون يورو، من ألمانيا لتنزانيا، مُقابل التكفير عن نهب ثرواتها المعدنية الهائلة لمدة 31 عامًا، وقتل 80 ألف ناميبي، وتعذيب وقهر ملايين آخرين، واسترقاق عشرات الآلاف غيرهم عبيدًا للآلة الصناعية الألمانية العملاقة!.. وهذه الأموال لم تُقدَّم لـ "ناميبيا" كـ"تعويضات على أساس قانوني"، حتى لا يطمع البعض في المزيد، وإنما هي مُجرد "دعم لإعادة الإعمار والتنمية في ناميبيا "!.. "يا بلاش"!
والآن يتضح الدافع الرئيسي للموقف الألماني من قرار محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكات الكيان الصهيوني الإجرامية للقانون الدولي، وممارسات الإبادة الجماعية لأبناء الشعب الفلسطيني!
فالمسئولون الألمان، فضلًا عن عقدة الذنب الموروثة من جرائم الحقبة النازية، ولأن على رأسهم "بطحة" كما يقول المثل، يخشون من إقرار المحكمة لحُكمٍ يُدين المُمارسات الصهيونية، ويفرض العقوبات الرادعة المُناسبة، فتكون تلك النتيجة عُنصرًا مُشَجِّعًا لدول عديدة أخرى، ومنها "تنزانيا"، و"توجو" وحافزًا لغيرهما من مستعمراتها السابقة، ودافعًا للمُطالبة بالتحقيق في جرائم الحرب الألمانية، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء، إبان عهد الاحتلال الألماني لأراضيهم، وهو أيضًا ما يخشاه الفرنسيون من فتح ملفات احتلالهم ونهبهم لثروات شعوب عديدة وقتلهم الملايين في فيتنام، والجزائر وغيرهما، وتتحسب له انجلترا بمُمارساتها في الهند ومصر وكينيا وفلسطين، ودول أخرى عديدة، بل والولايات المُتحدة التي قتلت بدم بارد الملايين من المواطنين الأبرياء، في اليابان بالقنابل النووية، وفي فيتنام خلال حرب الإبادة الفاشلة، وفي أفغانستان والعراق،.. إلخ، والتي بنت مجدها على أشلاء نحو مائة مليون من السُكَّان الأصليين للقارة الأمريكية: الهنود الحمر؛ الذين تعرضوا لعمليات إبادة منهجية، جعلتهم "أثرًا من بعد عين"!