رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"إيلان بابيه": كشف التزييف التاريخى وفضح السرديات الصهيونية المُلفَّقة! (3)

أشرنا فى المقال السابق؛ والمُعنون بـ«نحو تأريخ واقعى للتطهير الصهيونى العِرقى فى فلسطين»، إلى الدور المُهم الذى لعبته كتابات مجموعة الأكاديميين المُسماة: «المؤرخون الإسرائليون الجُدد»، فى الكيان الصهيونى وخارجه، بالتصدى لعدد من الأفكار، أو «الأساطير المؤسسة» له، حسب تعبير «روجيه جارودى»، وفضح خططه المُمنهجة لاضهاد الشعب الفلسطينى، ومُمارسته كل أشكال القمع، والـ«ترانسفير»، والفصل العنصرى، والإبادة الشاملة والمُنظمة لأسس حياة الشعب الفلسطينى وركائز وجوده!

واليوم نستكمل الاطلاع على جهود أحد أئمة «المؤرخون الجُدد»، البروفيسور «إيلان بابيه»، فندلف إلى صفحات كتابه المُهم: «عشر خرافات عن إسرائيل»، الذى صدرت ترجمته العربية الأولى عام 2018، وقد أحدث صدوره أصداءً كبيرة، داخل الكيان وفى الولايات المُتحدة والغرب، وفيه يبذل المؤلف جهدًا واضحًا فى تعريف المواطن (الإسرائيلى)، والمُتعاطفين مع الكيان، والمُتحمسين للدفاع عنه خارجه، بالكيفية التى تم عبرها «اختراع» فكرة هذا الكيان اللقيط، وتوضيح آليات اصطناعه، ومن الذى خطط لإنشائه؟، وما هى المُستهدفات من وراء هذا المسعى؟،... إلخ، ويُفَنِّدُ مزاعمه المُلفَّقة وادعاءاته الكاذبة التى بنى عليها صورته الذهنية السائدة فى المخيال الغربى، التى ضمنت له التأييد المُطلق والانحياز الغربى الكامل، وعلى كل المستويات.

وقد لا تكون هذه الحقائق «البديهية» غائبة عن المواطن الفلسطينى أو العربى، أو محل مفاجأة بالنسبة لهما، ولكنها بالقطع صادمة بالنسبة لمن عاش يؤمن إيمانًا راسخًا بصحة الأكاذيب الصهيونية، ويُرددها، ويُدافع عنها، بقناعة تامة؛ وهو أعمى البصر والبصيرة، بسبب وقوعه فى أحابيل الإعلام والدعاية الصهيونية والغربية، ناهيك عن القطاعات الصانعة، أو المتواطئة بالأساس مع جريمة اغتصاب فلسطين، لأسباب وذرائع ومكاسب ستجرى الإشارة لها!

وقد قسَّم «إيلان بابيه» الخرافات العشر إلى قسمين: الأول مُكَوَنٌ من «ست خرافات» ذات طابع «تاريخي»، والقسم الثانى من «أربع خرافات مُعاصرة»؛ تحتاج إلى الكشف والتحليل.

• الخرافات ذات الطابع «التاريخى»
أولًا: خرافة أن فلسطين أرض جدباء بلا صاحب!
ويُشير «بابيه» فى مدخل الكتاب إلى أن الرواية التاريخية الصهيونية بشأن الطريقة التى أصبحت فيها الأرض المُتنازع عليها «دولة إسرائيل»، تستند إلى جملة من الخرافات التى تُلقى، بصورة ماكرة، ظِلالًا من الشك على الحق الأخلاقى للفلسطينيين فى الأرض. وأن مهمة هذا الكتاب التصدّى لعشر من هذه الخرافات، التى تبدو فى الخطاب السائد كـ«حقائق غير قابلة للطعن»، يعتبرها المؤلف «خرافات تأسيسية أو جُملة خرافات شائعة»، ويُعدد «بابيه» هذه الخرافات العشر بأولاها: الخرافة التى تصور فلسطين، عشية وصول الصهيونية فى أواخر القرن التاسع عشر، بوصفها «أرضًا خالية، قاحلة، أقرب ما تكون إلى صحراء، قام الصهاينة الذين وصلوا إليها بزراعتها»، فيكشف أن العكس تمامًا هو الصحيح، حيث وجود مُجتمع مُزدهر «كان يشهد عمليات مُتسارعة من التحديث وبلورة النزعة القومية».

ثانيًا: خرافة أن اليهود «شعب بلا أرض»
ويرد البروفيسور «بابيه» على الكذبة الثانية، التى تقرن خرافة «فلسطين أرض بلا شعب» بخرافة أخرى الخاصة بـ«شعب (يهودى) بلا أرض»، موضحًا استنادًا إلى كتابات وأبحاث تاريخية موثقة، لكُتَّاب وباحثين يهود ثقات مُعترف بهم، أن الادعاء بأن اليهود الذين بدأوا فى الوصول إلى فلسطين منذ عام 1881، ينحدرون عرقيًا من اليهود الذين طردهم الرومان نحو عام 70 قبل الميلاد، ادعاء كاذب، «حيث أثبت جهد بحثى ضخم بأن اليهود إبّان الحكم الرومانى لفلسطين ظلّوا فى الأرض، متحولين إلى المسيحية أولًا ثم الإسلام»، بل الأهم أن «الصلة بين اليهودية فى العالم وفلسطين فى حقبة ما قبل الصهيونية كانت دينية وروحية، وليست سياسية».

ثالثًا: خرافة الربط بين الصهيونية واليهودية
ثم يُناقش الكاتب الخرافة الثالثة التى تساوى الصهيونية باليهودية، وتُقرن العداء للصهيونية بفزّاعة «العداء للسامية»، ويقوم بدحض هذه المعادلة المُصطنعة «من خلال إجراء تقييم تاريخى للمواقف اليهودية (التى جرى التعتيم عليها) إزاء الصهيونية، بالإضافة إلى تحليل تلاعب الصهيونية باليهودية لأسباب استعمارية، ولاحقًا لأسباب استراتيجية».

رابعًا: خرافة الفصل بين الاستعمار والصهيونية
وينتقل الكاتب إلى الخرافة الرابعة، التى تُنكر علاقة الاستعمار بالصهيونية؛ انطلاقًا من ادعاء كاذب يزعم بأن «الصهيونية حركة تحرُّر قومية ليبرالية»، فيضعها فى إطار «مشروع استعمارى إن لم يكن مشروعًا استعماريًا استيطانيًا على غرار تلك فى جنوب إفريقيا، والأمريكيتين، وأستراليا»، (راجع اتفاقية «سايكس بيكو»؛ و«وعد بلفور»؛ وقبلهما نداء «نابليون لليهود زمن الحملة الفرنسية على مصر»، وأنشطة بريطانيا الكولونيالية بعدها،.. إلخ، ومُبينًا أن أهمية هذا الدحض تعود إلى كونه يعكس «الكيفية التى نفكر بها فى المقاومة الفلسطينية ضد الصهيونية ولاحقًا إسرائيل، فإذا كانت إسرائيل مُجرّد دولة ديمقراطية تُدافع عن نفسها، فهذا يعنى أن كيانات فلسطينية مثل «مُنظمة التحرير الفلسطينية» ليست سوى جماعة إرهابية، أما إذا كان نضال هذه الكيانات ضد مشروع استعمارى فهذا يعنى أنها حركة مُقاومة للاستعمار، وستكون صورتها على الساحة الدولية مُختلفة تمامًا عن تلك التى تسعى إسرائيل ومؤيدوها إلى فرضها على الرأى العام العالمى».

خامسًا: خرافة إنكار التهجير القسرى للفلسطينيين عام 1948
وفى التصدى لـ«الخرافة الخامسة»، المُتعلقة بحرب اغتصاب فلسطين عام 1948، يُناقش المؤلف كذبة الفرار الطوعى للفلسطينيين من أرضهم، فيوضح مسار الأحداث الكارثى، وحجم الدمار والترويع والدمار الذى تعرض له أصحاب الأرض الأصليون، والجرائم الشنيعة التى ارتكبتها العصابات الإرهابية الصهيونية لإجبار الفلسطينيين على هجر دورهم وقراهم التى أُبيدت، مثلما حدث فى مذبحة «كفر قاسم»، وغيرها.

سادسًا: خرافة أن حرب 1967 فُرضت على إسرائيل فرضًا
يتصدى «إيلان بابيه»، فى هذا القسم من الكتاب لتفنيد الزعم الصهيونى بأن حرب 1967 فرضتها مصر والعرب، على غير مشيئة الكيان الصهيونى، ويرصد الدلائل القاطعة على أن «هذه الحرب التى توقَّعتها «إسرائيل»، ولم تُبَاغَت بها، بل تَجَهَّزَت لها وأعدت العُدة لخوضها، منذ أن انقشع غبار حرب 1948 كانت جزءًا من رغبة إسرائيل لاستكمال الاستيلاء على كل فلسطين، بل انتهزت «الفرصة التاريخية» التى سنحت لها من خلال قرار مصرى مُتَهَوِّر فى يونيو 1967». 

• الخرافات ذات الطابع «المُعاصر»
سابعًا: خرافة «ديمقراطية» الكيان الصهيونى المُدَّعاة!
يفضح الكاتب فى هذا القسم من الكتاب ادعاءين مُتداخلين: الأول أن «إسرائيل» دولة «ديمقراطية»، وأنها دولة «احتلال مُستنير» تتعاطى مع الشعب الفلسطينى الواقع تحت الاحتلال بالرأفة والتراضى (!)، ويورد عشرات الأمثلة تنزع هذين الادعاءين من جذورهما: سلسلة المذابح المُستمرة، وخطوات التنكيل والطرد وإجبار الفلسطينيين على العيش أذلاء فى «الجيتوهات» والمعازل،... ويؤكد أن «إسرائيل» دولة كيان غير ديمقراطى، «إثنوقراطى»، «دولة» فصل عنصرى «أبارتهايد»، وقائمة على الاضطهاد العرقى والتمييز المُعتقدى، وبالتالى تستحق العزل والحصار، لا التأييد والدعم والإشادة!

ثامنًا: خرافة «أوسلو» و«حل الدولتين»
يُدين المؤلف فى القسم الثامن الخاص الذى يحمل عنوان «خرافات أوسلو» الاتفاقية المُسمّاة بهذا الاسم، ويُعرّى مُستهدفاتها وأكاذيبها، فلم تكن «اتفاقية سلام» كما تزعم الخرافة، ولا استهدفت إيجاد حل «عادل» و«نهائى» للقضية، أى حل يتناول «جذور المُشكلة»؛ فلا كانت إسرائيل ستقبله، لأن ذلك يقتضى الاعتراف بمُشكلة «الأرض» (الفلسطينية) والإقرار بعدم مشروعية الاستيلاء عليها، وإيجاد حل نهائى لمُشكلة اللاجئين، وهما أمران لا يمكن لـ«إسرائيل» التسليم بهما، وإلّا انهار المشروع الصهيونى برمّته، ومن جهة أخرى فلم يكن بمقدور الطرف الفلسطينى الإذعان النهائى لهذا (الحل)، والقبول بـ«تصفية القضية» عبر وهم «الدولتين»، والاستبشار بانسحابات اسرائيلية محدودة (تقع ضمن مساحة الـ20% التى لم تحتلها «إسرائيل» عام 1948!)، مقابل «السلام» بالمفهوم الصهيونى، أى الإذعان النهائى لشروط «إسرائيل»، والكف عن المطالبة بعودة الحقوق السليبة، وهو ما كان يعنى أن «أوسلو»: «لم تكن مسعى سلميًا مُنصفًا ومُتكافئًا، وإنما تسوية وافق عليها شعب مهزوم وخاضع للاحتلال»!

تاسعًا: «خرافات غزة»! 
يرد «بابيه» فى هذا القسم من الكتاب على مزاعم الكيان الصهيونى المُتكررة بشأن دواعى العنف فى قطاع غزة، ويعرض لوصم الكيان لحركة «حماس»؛ باعتبارها «حركة إرهابية» ويكشف عمليات التحريض المستمرة على العرب والإسلام، ويُعرِّى كذبة أن انسحاب «إسرائيل» من غزة عام 2005 كان «بادرة سلام تجاه الفلسطينيين» قوبلت بالعنف والإرهاب، ويؤكد أن قرار الانسحاب «كان جزءًا من استراتيجية الغرض منها تقوية قبضة إسرائيل على الضفة الغربية وتحويل غزة إلى سجنٍ كبيرٍ يُمكن حراسته ومراقبته من الخارج»، «لقد كان الأمر أقرب إلى توزيع استراتيجى للقوات،.. مع نتائج كارثية على سُكَّان غزة»!

عاشرًا: خرافة «حل الدولتين» 
وكأن البروفيسور «بابيه» يرد على الأوهام التى ما انفك الترويج لها مستمرًا حتى الآن، تحت زعم «حل الدولتين»، ويعتبرها محض «اختراع إسرائيلى» الغرض منه إبقاء الضفة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية دون دمج السُكَّان الذين يعيشون هناك، لذا تم اقتراح أن تكون الضفة الغربية «شبه دولة تتمتع بالحكم الذاتى» مع إبقاء كل مفاتيح حياتها تحت الهيمنة الإسرائيلية، وفى المُقابل: «سوف يتعين على الفلسطينيين التخلّى عن كل آمالهم فى العودة، وفى حصول الفلسطينيين فى «إسرائيل» على حقوق متساوية، وفى شأن مصير القدس، وفى قيادة حياة حرة كبشر فى وطنهم».
وفى وصفٍ أخير بليغ، لعل المتحمسين لمشروع «الدولتين» أن يفكروا فيه مليًا: يُصَرِّحُ البروفيسور «بابيه» بحسم: «إن حل الدولتين أشبه بجثة يتم إخراجها من المشرحة من حين لآخر، فيتم هندمتها بصورة أنيقة، ومن ثم عرضها كشىء حى، وعندما يُثبت مرةٌ أُخرى أنه لا توجد فيها ذرّة حياة، يتم إرجاعها إلى المشرحة»!