رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أدباء مصر فى قبضة «صبرى العسكرى»!

كانت «المحاماة» بالنسبة له «مهنة المبادئ لا الإثراء» ومن ثم كانت قضايا صبرى العسكرى تنتهى قبل أن تبدأ، وإذا بدأت لا تكتمل، وإذا اكتملت فالنتيجة فى كل الأحوال واحدة، وهى «الصلح خير»، وكان بعض المتقاضين يخرجون من مكتبه بشارع قصر النيل وهم يضربون كفًا بكف، ويقولون: هذا محام أم شيخ بلد؟!. أما زوجته السيدة سميرة فقد عانت الفقر بعد رحيله، وكانت تسألنى: ألا تعرف أحدًا بقيت عنده أتعاب لم يتقاضها زوجها فى حياته؟! وكنت أعرف وكانت هى تعرف بعضهم، لكنهم كانوا ينكرون، فقد كان العسكرى يتعامل بكلمة الشرف، وقد بقى له عند أحد المتقاضين مبلغ كبير، فقال إنه سدده، ولم يكن هذا صحيح، وقد أنفق على مرضه أضعاف الحق الذى كان عليه أن يسدده- إن ربك لبالمرصاد- أما صبرى العسكرى فقد كانت نصيحته التى يقدمها فى العادة لكل المتقاضين: الخسارة المحسوبة أفضل من مكسب فى علم الغيب، خاصة وأن التقاضى ليس رحلة ممتعة. وإذا كان لا مفر من الوصول بالمنازعة إلى ساحة القضاء، فإن العسكرى لم يكن يضيع فرصة مواتية لعدم استمرار النزاع، عن قناعة دائمة بأن لكل مشكلة حلًا بالتى هى أحسن «المودة والمعروف».

ولم يكن الرجل مجرد محام، بل كان أديبًا منذ كان طالبًا بمدينة دمنهور، وتنكر لمدة ثلاث سنوات باسم «صفية فريد»، وهو ينشر قصصه القصيرة فى الصحف والمجلات بين أسماء معروفة كمحمود تيمور وسلامة موسى وعباس حافظ وجميلة العلايلى وأمين سلامة وآخرين، أما سبب تنكره باسم أنثى، فقد كان بسبب نزاعه مع أمين يوسف غراب، صاحب القصة الشهيرة «شباب امرأة»، التى تحولت إلى فيلم شهير، فقد اتهم غراب العسكرى بأنه سطا على فكرة قصة له منشورة، فلما قدم الدليل الدامغ على أنه سبق غراب بالنشر قبله، أعرضت الصحيفة عنه لصالح الكاتب المشهور، فاضطر للتنكر حتى تسمح الصحيفة بالنشر له. وله عدة مجموعات قصصية منها: «قيود محطمة، اللعبة التى انتهت، دعوة للحب، الملهى الليلى، دنيا غير الدنيا»، فضلًا عن مجموعة كتب تشمل مقالاته فى الصحف القومية والخاصة، منها: «يا قلب لا تحزن، نزار قبانى والثورة العربية، كلمات فى النقد والسياسة». وقد أهلته صفته الأدبية لأن يكون محاميًا لكثير من الأدباء، خاصة وأنه كان محاميًا لاتحاد الكتاب لمدة عشر سنوات، ثم مستشارًا قانونيًا لاتحاد الناشرين المصريين، ومن واقع تعاملاته على مدى خمسين سنة توصل إلى أن قاعدة التسامح ليست سائدة بالقدر المعقول إلا فيما بين الأدباء والفنانين، إلى حد أنهم فى واقع الأمر يشكلون «جماعة الصلح خير»، والأمثلة على ذلك كثيرة.

كان الروائى محمد جلال فى بداية علاقته بالسينما والأدب والصحافة، وبذل جهدًا كبيرًا فى مرحلة الإعداد لفيلم الفنانة ماجدة الشهير «جميلة بوحريد» المناضلة الجزائرية، وظهر الفيلم دون اسم محمد جلال، بينما تصدر اسم يوسف السباعى مؤلفًا، ونجيب محفوظ وعلى الزرقانى وآخرون كتابًا للسيناريو، وخسر محمد جلال القضية التى رفعها، وقالت ماجدة للعسكرى إن خسارة جلال القضية التى رفعها ضدها لا تعنى أنه لم يبذل جهدًا يستحق عليه مالًا، واتصل العسكرى بجلال يعرض عليه مبادرة ماجدة، فرحب بها واعتبرها ردًا لكرامته.

أما محمود السعدنى فقد اشتبك فى قضية مع ماجدة والشاعر كمال نشأت، فقد تناول فيلم ماجدة «قصة ممنوعة» بالسخرية إنتاجًا وأبطالًا، مما اعتبرته ماجدة سبًا وقذفًا، وفى توقيت متقارب سخر السعدنى أيضًا من الشاعر كمال نشأت؛ لمطالبته بتعويض كبير لوجود سبع عشرة قصيدة من إبداعه ضمن ديوان إبراهيم ناجى من إعداد الشاعر صالح جودت، وأصدرته وزارة الثقافة تحت إشراف لجنة من الشاعر أحمد رامى ود. أحمد هيكل «الذى أصبح وزيرًا للثقافة فيما بعد»، ومن الطريف أن اللجنة قالت فى مقدمة الديوان إنها بذلت مجهودًا كبيرًا فى مراجعة الديوان! ونُظرت الدعويان فى جلسة واحدة، وقبل الجلسة بادره جمال العطيفى محامى السعدنى قائلًا: «إن السعدنى لا ينام لمروره بظروف صعبة بسبب مرض ابنته». ثم أبدى استعداده لرد اعتبار الشاعر نشأت والفنانة ماجدة بما سوف يثبته فى محضر الجلسة من تقدير لهما، ونشر السعدنى اعتذارًا لنشأت، ولكن اعتذاره لماجدة يستحق استعادة قراءته بعد ٦٢ سنة من نشره بمجلة «صباح الخير» أول فبراير عام ١٩٦٢ نوجزه هنا كوثيقة تحية لذكرى أبطاله:

«وداعا أيها السادة القراء.. أستودعكم الله وفى النفس غصة وفى القلب حسرة، وأنا ذاهب إلى الحبس! والذى سيحبسنى ليس النائب العام، وليس القاضى، ولكنه العسكرى، والعسكرى ليست مهمته، ولكنها لقبه، والاسم الكامل الأستاذ صبرى العسكرى، والمهنة.. محامى الممثلة العظيمة ماجدة، وذات تليفون بينى وبين الأستاذ العسكرى قال سيادته.. إنه لا يطلب منى أكثر من أن أكتب فى «صباح الخير» وفى نفس المساحة وبنفس البنط اعتذارًا كاملًا للفنانة ماجدة. وهأنذا أيها السادة القراء.. ونزولًا على رأى، أو بمعنى أصح نزولًا على أمر سيادة الأستاذ العسكرى، وأعترف وأعلن اعتذارى الشديد للممثلة ماجدة، أستغفر الله، بل كبيرة ممثلات الشرق، وعظيمة ممثلات الغرب، وزعيمة ممثلات الكون والجوهرة المكنونة والكوكبة المصونة، حفظها الله ذخرًا للسينما، وحقق على يديها ما تصبو إليه البشرية من فن رفيع وفن سمين! إنك سميع مجيب الدعوات يا رب العالمين. هذا اعتذارى أعلنه على الملأ وأنشره على الناس! سألت الله أن يرضى الأستاذ العسكرى عنى وأن يعفو عنى، وأن يطلق سراحى، فأنا غلبان وصاحب عيال، والشهر ده شعبان والأسبوع القادم رمضان.. أدامك الله يا سيدى العسكرى إلى كل عام، ويا سيدى العسكرى اغفر لى، فما كتبته عن الممثلة العظيمة ماجدة فى العدد الماضى ليس أكثر من هفوة! هفوة.. ليس إلا!».

أما الشاعر صالح جودت فقد اعتذر للشاعر كمال نشأت فى مقال مطول بمجلة «المصور» اعترف فيه بما حدث من خلط داخل ديوان إبراهيم ناجى، فقد ترك نشأت قصائده دون كتابة اسمه عليها، وأرسلها لناجى ليكتب لها مقدمة لديوانه، وكان من عادة ناجى أن يترك أوراقه فى مكتبه دون ترتيب أو تمييز.

وقد طارد الحظ التعس ديوان ناجى مرة أخرى حين تضمن أربعين قصيدة من ديوان «أرواح وأشباح» للشاعر على محمود طه، صاحب قصيدة «الجندول» التى تغنى بها عبدالوهاب، وقد أعلن النقاد دهشتهم؛ لأن الشاعر صالح جودت كان صديقًا للشاعرين، وجمعتهما مدينة المنصورة فى شبابهم حتى صعد نجمهم فى سماء القاهرة، وضمتهم «جمعية أبوللو» التى رأسها أمير الشعراء أحمد شوقى.

أما يوسف إدريس فكان يميل إلى إنهاء المنازعات صلحًا، ما دام الصلح لا ينال من كرامته الشخصية والمهنية، وقد اتفق مع إحدى الصحف العربية الصادرة من لندن على الكتابة لها أسبوعيًا، غير أنه فوجئ بعد أن أرسل لها عددًا من المقالات أن تراخت فى النشر دون أسباب معلنة، وقد فهم من حوارات جانبية معهم أن هناك اعتبارات تخص الصحيفة، تمنعها من أن تكون نافذة لطرح أفكاره، خاصة السياسية منها، وقد اعتبر يوسف إدريس أن ذلك التوجه ينطوى على اتجاه لتطويعه لكتابة ما يتفق مع وجهات نظرهم، ولو بالمخالفة لمعتقداته وأفكاره، لذلك لجأ للقضاء بدعوى جرى تكييفها على سند من أنه لا يجوز فى القانون وفى مهنة الصحافة اختراق ضمير الكاتب بمعتقدات سياسية هو لا يؤمن بها. وما إن وصلت الدعوى علم الصحيفة حتى أدرك مسئولوها أن المسألة أصبحت تتصل بحرية التعبير وليس مجرد الامتناع عن نشر مقالات، لذلك بادرت بإرسال محاميها الأمريكى الجنسية من أصول عربية إلى القاهرة، واتصل بنقيب المحامين المصرى لمعاونته فى إنهاء النزاع، وتم اللقاء بمكتب صبرى العسكرى بينه وبين المحامى الأمريكى ومعه محام مصرى شاب من مكتب النقيب ومدير مكتب الصحيفة بالقاهرة، وتم الاتفاق على إنهاء النزاع صلحًا، على أن يتم فى اليوم التالى مناقشة التفاصيل بحضور د. يوسف إدريس، الذى رحب بالصلح طالما أنه سيضمن له رد الاعتبار أدبيًا وماديًا، وبالفعل تم اعتذار الصحيفة له وسداد المقابل المادى لمقالاته، مع التصريح له بنشرها فى أى صحيفة أخرى. ولكن يوسف إدريس فى بعض الأحيان كان يتغلب عليه عناده فيمضى فى الخصومة إلى نهايتها، كما فعل أثناء خصومته مع وزير الثقافة آنذاك محمد عبدالحميد رضوان، فقد كان يقضى مصيفه بالإسكندرية عندما تحدث تليفونيًا صباحًا إلى صبرى العسكرى يطلب منه رفع دعوى ضد الوزير لما كتبه عنه بجريدة «الأهرام»، وسأله عن رأيه، فى الوقت نفسه كان للرئيس مبارك موقف من هذه القضية، وتلك قصة أخرى تستحق وقفة للأسبوع المقبل.