رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"مصر القوية" فى مواجهة التحديات والتهديدات (1)

تواجه الأمم، وبالذات تلك الأمم التليدة، التي تملك تاريخًا حضاريًا غارقًا في القِدم والحضور؛ كمصر، لحظات حاسمة من حينٍ لآخر، في مسيرتها الحثيثة من أجل المستقبل، وهي بحاجةٍ ماسّةٍ دائمًا إلى شحذ قواها، وتجميع إرادتها، وتوحيد صفَّها، لتكوين وضعية مناسبة، يُمكنها التغلُّب على العقبات، والمواجهة الناجحة للتحديات والتهديدات.
ولغرض التوضيح فيمكن تقسيم التهديدات والتحديات الراهنة التي تواجه مصر على كل المستويات؛ دولةً وشعبًا، إلى قسمين: تحديات داخلية وأخرى خارجية، وهي تحديات مُتحركة؛ سائلة، ودائبة التأثر والتأثير، كلاهما فى الآخر، وأيضًا صعودًا وهبوطًا؛ أى تقدُّمًا وتأخرًا في الترتيب الزمنى؛ وإن لم يعن ذلك ترتيبًا في الأهمية، إذ أن كلًا منها يملك تأثيره الموضوعي على مُجمل أوضاع البلاد، وعلى مُستقبل وازدهار حياة مواطنيها.
ومن المُهم للغاية الثقة فى أنه مهما كان عُمق الأزمة التي تعانى منها الشعوب، وأيًا كانت مستوياتها، وأبعاد ما تُلقيه على المجتمع من أثقال وأعباء، فمن المؤكد أن فرص مواجهتها الناجحة ممكنة ومُتاحة، وقد مرَّت دولٌ عديدة بمحن شديدة الحِدَّة والشراسة، واستطاعت أن تواجه أزماتها، وأن تخرج منها سالمة، بل وأن تتقدم تقدُّمًا حثيثًا باتجاه ما تصبو لتحقيقه من ازدهار ورخاء. 
وسنتجاوز في هذا الموضع الحديث التفصيلى عن النماذج التاريخية المعروفة، كألمانيا التى خرجت من الحرب العالمية الأخيرة مهزومة، ومذلولة، ومُحطَّمة، ومُحتلة، ومُقسَّمة؛ ومع هذا تمكَّنت خلال عقود محدودة من النهوض وحل مُشكلاتها، التى كانت تبدو مُستعصية على الحل، والتقدُّم لكى تحتل موقعًا مُتَقَدِّمًا فى الاقتصاد والإنتاج والتفوق العلمى والصناعى العالمى! 
وكذا اليابان، التى خرجت أيضًا من الحرب العالمية الثانية مُدمرة، وقد كانت الدولة الأولى والأخيرة التى قذفتها الولايات المتحدة بالقنابل النووية، كما تعرَّضت للإهانة القومية، والإكراه على قبول شروط مُذِلَّة للاستسلام، وها هى أيضًا- بعد بضعة عقود- تُرَسِّخُ موقعها الاقتصادى والتكنولوجى فى مُقدمة دول العالم! 
وأخيرًا وليس آخرًا الصين، التى بدأت تجربتها الاقتصادية الأخيرة، التى وسمتها بـ"الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، عام 1978، أي بعد انتهاج مصر سياسة "الانفتاح الاقتصادى" بأربع سنوات، وها هى تزحف بإرادة وتصميم إلى موقع الصدارة العالمية!
لكننا سنُشير إلى واحدة من أُخريات تجارب النهوض الفتيّة، والتى تزحف بقوة نحو المُقدمة الآن، وهى التجربة الفيتنامية اللافتة للأنظار، حيث تُعَدُّ مسيرة فيتنام فى العقود الثلاثة المنصرمة واحدة من أبرز قصص النجاح الاقتصادى فى العالم، إذ أن الدولة الفقيرة سابقًا، والتي حطَّمتها الحرب ضد الاحتلال الأمريكى، وبعد طرده من أراضيها أواخر سبعينيات القرن الماضى، بدأت مسيرة وثبتها الاقتصادية التى قفزت بها إلى مصاف "النمور الآسيوية"، ورغم أن نسبة الفقراء بها كانت قد تجاوزت سبعين بالمائة من تعداد مواطنيها، فقد استطاعت أن تُصبح أحد أهم مراكز التصنيع فى العالم، وتنافس جارتها العملاقة الصين فى مجالات عديدة، وهو ما أشارت إليه مجلة "فاينانشيال تايمز" الأمريكية، فى عدد شهر يوليو الماضى، مؤكدةً أن لحظة بزوغ فيتنام الاقتصادى قد حانت، إذ حقَّق الاقتصاد الفيتنامى مُعَدَّل النمو الأسرع فى قارة آسيا كلها، عام 2022، بنسبة بلغت 8%، بل وقفزت فيتنام من المركز 47 بين الدول المُصَدِّرة للتكنولوجيا عام 2001 إلى المركز العاشر بحلول عام 2020. (فاينانشيال تايمز:://www.ft.com/content/fa1db5ce-8f65-4b28-ab6d-b78730f98195).

والثابت، مما تقدَّم، أن كل الشعوب والدول المُتقدمة، والتى تحتل مواقع بارزة فى الترتيب العالمى، لم تتنزَّل عليها حلول مشكلاتها من السماء، وإنما تحملّت، وواجهت، وخطَّطت، وعملت، وبذلت من الجهد والعرق، بل ومن الحرمان والتحمُّل، ما جعلها قادرة على الفكاك من مُستنقع الفقر والتخلُّف والحاجة والتردى، والهزيمة والاستخذاء؛ بل واستطاعت، فوق ذلك، أن تبنى دولة حديثة قادرة على الدفاع عن مُحيطها الحيوى، وحماية مصالحها العُليا، والحفاظ على قداسة تُرابها الوطنى.
وقد اقتضى النجاح فى هذه المهمة الشاقة، توفر أو توفير، عدد من العناصر والشروط الضرورية، فى مقدمتها: امتلاك الأداة السياسية المتمرسة القادرة على قيادة المجتمع والدولة، ووضوح الهدف، وصحة التخطيط، واتحاد الإرادة العامة للمجتمع كله، والإصرار على النجاح، وامتلاك العزيمة على تحقيق الغايات المرجوة وإنجاز الأهداف المرسومة، والإيمان الكامل بوجوب العبور إلى بر الأمان بالشعب والوطن. 
ومن نافل القول أن ما تواجهه مصر من تحديات وما يُحيط بها من تهديدات، الآن، يستوجب استنفار كل ما تقدم من شروط، للنجاح فى تحقيق النصر في مواجهة المخاطر المُحيقة بالوطن من كل جانب؛ فى الداخل وفى الخارج.
إن الهدف النهائى الذى يجب أن نسعى بكل الجهد المُخلص إليه فى الفترة المقبلة هو بناء "مصر القوية القادرة"، المُستغنية عن طلب العون من الآخرين، القادرة على إعالة مواطنيها والارتقاء بأحوالهم، والمتأهبة لصد الأطماع الخارجية، والعازمة على بناء "الهيبة" و"المكانة" اللائقة في المحيط العربى والإقليمى، والعالم أجمع.
وقد لخَّص الدكتور "جمال حمدان" الوضع فأوجز وأوضح:
"مصر اليوم، إما أن تحوز القوة أو تنقرض. إما القوة وإما الموت، فإذا لم تُصبح مصر قوة عظمى تسود المنطقة، فسوف يتداعى عليها الجميع يومًا كالقصعة: أعداء وأشقّاء.. أصدقاء، وأقربون، وأبعدون".
فما هى التحديات والتهديدات التي تواجهها مصر؟ وكيف نواجهها؟ وما هى ركائز هذه المواجهة؟ وشروط الفوز فيها؟..
هذا هو ما سنُناقشه باستفاضة فى المقالات التالية.