رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عصافير أبلة حكمت

بسمة ناجى
بسمة ناجى

أثناء مشاهدتنا مقاطع فيديو للطباخ التركى ذى الابتسامة السمجة، ذات أمسية رائقة، ضل عصفور طريقه ودخل علينا من النافذة. طلبت منى أبلة حكمت ملاحقته. أمسكته ووضعته بين يديها. قرّبته من وجهها للحظات، فارتجفَت، ثم قررت الاحتفاظ به. أرسلتنى لآتيها بقفص كبير، استقر على البوفيه العتيق أسفل شباك الصالة.

بعد انقضاء سنوات عملها الحكومى فى التربية والتعليم، حاصر المرض أبلة حكمت، ففرغت أيامها من كل شىء خارج الجدران التى تضم أثاثها العتيق، وأدويتها المتجددة. إلا أن التغيرات التى بدأت تظهر بوضوح خلال آخر عامين كانت دراماتيكية. قرب الستين، أشارت مرارًا لخوفها من فقدان البصر أو أن يُقعدها الروماتيزم كأمها، لم تذكر الخرف بين لائحة الأمراض التى خشيت الإصابة بها فى الكبر.

أعمل من المنزل أغلب الوقت، وبيتنا أقرب بيوت الأبناء لبيتها، فتغلفت بالواجب وانتقلت للعيش معها، كما تكفلت أمى- سرًا- بمنحى نصف المبلغ الذى كانت ستحصل عليه جليسة مقيمة. كنت أثبت اللابتوب على سفرة جدتى العتيقة، تشغل شاشته نصف عقلى، بينما تشوش ثرثرتها على النصف الآخر، فينتهى بنا الحال لمشاهدة مقاطع الطهى المبتكر عبر إنستجرام.

أول الأمر، أربكنى اختلاط ما تعرفه من عالمها بما يذوب منها ببطء، فتعاود التعرف عليه بحداثة طفل. بحثت عن تطورات الحروف الثلاثة التى تختصر حالة أبلة حكمت عبر شبكة الإنترنت. تفحصت صورًا ميكروسكوبية لأنسجة قشرة الدماغ المتحللة. شاهدت فيلمًا أعجز الخرف زوجة بطله، واختارت ألا تتحمل ثقل الانتظار، فقرر مساعدتها بطلقة فى الرأس. قتلتُ جدتى عدة مرات فى أحلام كنت أصحو بعدها على نوبات هلع وبكاء. فكرت غير مرة فى إنهاء مهمتى هنا، أو التناوب عليها مع من يستطيع من بقية الأحفاد، كما اقترح خالى بتثاقل فى إحدى زياراته المتباعدة ليفحص مسارات عروقها التى يشفها بياض الجلد الرقيق، ويترك بعض المقويات لإنعاش أعصابها التى ينهشها العطب.

كثيرًا ما تلقانى الصمت عند عودتى بالطعام الذى تعده أمى، فأتجه مرتعبة نحو غرفتها مباشرة. إن لم يصلنى شخيرها، كنت أجدها غارقة فى محتويات أحد الأدراج وقد أفرغتها على السرير للتخلص مما لا ينفعها بحسب رؤيتها المتغيرة. 

كانت تفزع لرؤيتى، فأعيد عليها قصصًا عائلية، لم أعرف أبدًا إن كانت تصدقها، كقصة ولادتى بين يديها حين تأخرت المولدة على أمى، وكدت أختنق ولا يطلع علىّ صُبح ذات ليلة باردة قبل أربع وعشرين عامًا. ربما انتبهت لكلامى أول الأمر وتذكرتنى، ثم تتجاهلنى وتعود لمربعات حياتها المطبوعة على عصبوناتها الآخذة فى التآكل، تُعمِل فيها الإحلال والإبدال. كتبت قصصًا كاملة ونشرتها عبر فيسبوك من إجاباتى عن أسئلتها التى لا تنتهى. لم يكن الأمر كوميديًا، لكنه لم يخلُ من مرح.

لست عاطفية للغاية، لكننى شكرت تساهل الخرف حين تجاهل لحظات طيبة بيننا، كأن تتأمل وجهى مثلًا، ثم تذكرنى بعلبة الملبن المحشو بالبندق والمغلف بالنشا التى اعتدت أن أقدمها لها صباح العيد كعادة جدى، أو أن تدعونى لأشاركها إعداد البغاشة المغمسة بالعسل وماء الورد، التى تعرف أنى لا آكلها إلا من يدها، وتذكر كم أفسدت ملابسها بعسل البغاشة وأنا صغيرة، حتى كنت أظن دماغها بخير لكنها تدعى النسيان لتُلاعبنا.

تتابعت علينا العصافير؛ تدخل من النافذة، فأمسك بها، أضعها بين يدى أبلة حكمت، فترتجف. 

ذكَرَت أبلة حكمت أن العصافير تأتيها برسائل. لم أشاهد الرسائل أبدًا، لكن منح الخرف أبلة حكمت تحررًا وخفة، فكتبت ردودها عليها جميعًا؛ على الأوراق التى تراكمت فى كل مكان، وعلى أغطية الأنتريه البيضاء، وفى الفراغات بين تطريز ملاءات سريرها الوردية والصفراء. زادت أقفاص العصافير، وزعتها أبلة حكمت بين غرفتها والصالة ومدخل المطبخ وانشغلت بالرد على رسائلها، فلَحِقتُ أنا بالديدلاين.

نعتَت صديقة قديمة لها بأوصاف لم أسمعها منها أبدًا، وهى تكتب ردًا على رسالة اعتذارها عن سكب العصير على فستان أبلة حكمت عمدًا فى حفل نهاية العام الدراسى للسنة الأخيرة من المرحلة الثانوية. فى ردها على رسالة جدى التى يخبرها فيها بصحة شكوكها حول علاقته بزميلته الشابة الأنيقة، ذكَّرَته بخالة لها- لم تعد تذكر اسمها- واظبت على زيارة بيتها لفترة طويلة بعد زواجهما لتتنعم بلقاءات مشبعة مع ابنها فى غرفته بالطابق الأرضى. واجهت فى رسالة أخرى زميلها، مدرس الجغرافيا، ببجاحته وتغفيله لظنه أنها لم تعرف بما كان يفعله بالتلاميذ الصغار. أخبرته بأنها من أوعزت لوالد أحدهم بالانتقام منه، وكان جزارًا، فتربص بعض صبيانه بالمدرس وقطعوا عضوه، ثم اتصلوا بالإسعاف كى لا يموت غارقًا فى دمه.

مر أسبوع ولم أخبر أحدًا بأمر الرسائل إلا بعد استيقاظى مفزوعة على صوتها تسب العصافير عند دخولها من الشباك وتقذفهم بأحذيتها القديمة. ظن المارة قذائفها موجهة إليهم فردوها إلى بلكونتنا وزادها بعضهم بالحصى. حضرت أمى صائحة وأنزلت عليها سوط اللوم والتوبيخ، ونالنى من اللوم جانب بالطبع. تبعها خالى ومعه رجل أخذ القياسات لاستبدال الشيش الخشبى بشباك ألوميتال، إحدى ضُلَفه ثابتة تملؤها شبكة من سلك ضيق لا تدخل منه الناموسة، حسب قول الرجل.

اكتفت أبلة حكمت بما لديها من عصافير، ولم تنقطع الرسائل، حملها أصحابها بأنفسهم لأبلة حكمت مدموغة بالذعر. 

«واقفة عند التلاجة.. أمى دلوقت تدينى علقة عشان قعدت أتفرج على أحمد رمزى، وقعر حلة الفاصوليا شاط، وابنها مش هيرضى ياكلها».

خرجت عصر يوم من الحمام، ووقفت ترتعد عارية فى قلب الصالة، انفلت بولها وهى تصرخ خوفًا من بواب العمارة. أصرت أنه وراء باب الحمام ووجّه سكينًا لبطنها المكور الضامر بعد أن خلعت ملابسها، لأنها لم تمنحه سوى رُبع جنيه بقشيشًا حين أحضر لها علبة سجائر ودسها بين الخضار كى لا يراها جدى. قبل أن أصل إلى مقبض الشباك المفتوح وأجذبه بقوة فى مجراه، جذب صوتها المتفرجين من شبابيك البناية المقابلة. أخذتها إلى الحمام، ثم اتصلت بأمى.

كان حضور أمى عاصفًا هذه المرة، اصطدم صوتها بأركان الشقة فانتفضت العصافير. فى الصباح التالى كانت أبلة حكمت تطفو فى فِراشها فوق بركة من عرق غزير وبول، وأرسل خالى من يسد النافذة بالطوب والأسمنت.. زنزانة محكمة.

هرب الضيوف وانقطعت الرسائل فى الأيام الأخيرة، فانشغلت أبلة حكمت بعَدّ المربعات المحفورة على رأس دولابها الخشبى، ووردات ملاءة السرير، وغُرَز رِجل الغراب فى رسوم الكانافا العتيقة التى أخرجتها من عمق دولابها.

صباح يومنا الأخير معًا، أخرجت أبلة حكمت تايير بنفسجيًا أنيقًا من دولابها، ارتدته، وبعد أن تناولت إفطارها أصرت على الخروج. بكت كثيرًا حين انفعلت وأخبرتها بأنه لم تعد هناك مدرسة ولا يحزنون. بعد فترة صمت طلبت منى الذهاب إلى الجمعية التعاونية بقائمة طلبات من أنواع لم أسمع بها سوى فى أفلام الثمانينيات وقمح لطعام العصافير وعمل بليلة.

تركت لها كوب نعناع على الكومودينو، وخرجت لشراء قمح البليلة ومررت ببيتنا لأخبر أمى بأننى أحب جدتى والعصافير، لكنى اكتفيت.

بعد اتصالات متوالية من الجيران، وصلنا شقة أبلة حكمت وقد التهم الحريق الملاءات والملابس والصور على سريرها، وامتد لموكيت الطرقة. أدركه الجيران قبل أن يقضى على مفروشات الصالة. اندفعت لعمق الشقة حين عبَّأت أنفى رائحة احتراق لحم واضحة. كانت رائحة شواء العصافير تتصاعد من الحمام. 

حتى اليوم، لم نجد أثرًا لأبلة حكمت ولم تتوقف العصافير عن الدخول من نافذتى، تحمل لى رسائلها. 

من مجموعة «أرشيف ريبليكا»

القائمة القصيرة لساويرس

فرع شباب الكتاب