رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإبادة الجماعية : قراءة فى كتاب مُنصف!

رفائيل لِمكن.. أكثر من ستين يومًا انقضت منذ بدأت وتيرة الصراع تتصاعد بين المُغتصب الصهيونى، و«المُقاومة الفلسطينية»، وأحب أن أُسميها هكذا، ليس نكوصًا عن ذكر اسم «حماس» التى أطلقت موجتها الفارقة الأخيرة، يوم 7 أكتوبر الماضى، وإنما لأنها وإن كانت البادئة بالمُبادرة والفعل، فقد حاز إنجازها قبول الأغلبية الغالبة من أبناء شعب فلسطين؛ وأمة العرب؛ بل والجماعة الإنسانية فى مشارق الأرض ومغاربها، حتى أصبح عنوانًا للنضال، وراية للكفاح، تجاوز حدود مُطلقه الأساسى، على نحو ما كانت ذات يوم راية النضال الفيتنامى ضد الاستعمارين الفرنسى والأمريكى، وفى مرحلة أخرى كفاح شعب جنوب إفريقيا ضد نظام الفصل العنصرى «الأبرتايد»، حتى زال وزالت سيرته الكريهة!
شهران عصيبان خلّفا وراءهما أكثر من 16 ألف شهيد، جُلَّهم من الأطفال والنساء، و42 ألف جريح من المواطنين العُزَّل الأبرياء، فضلًا عن أكثر من 8000 إنسان فى عِداد المفقودين وسط الخرائب وتحت الركام، يُضاف إليهم عشرات آلاف المساكن والمستشفيات والمدارس والمُنشآت العامة، وسائر مكونات البنية التحتية التى تم تدميرها، ومقومات الحياة المُحطمة فى المدينة المنكوبة! 
شعارات جوفاء:
لكن هذا الحجم الهائل من القتل والتخريب المُتعمَّد والتنكيل الوحشى بالبشر والحجر، لم يفلح فى تحريك ضمير «العالم الحر!»، الذى باعنا «الترماى» حينما روج فى عالمنا لشعارات «الحرية»، و«الإخاء»، وصدَّر لنا بضاعة «المساواة»، و«الشفافية»؛ و«الديمقراطية»؛ و«حقوق الإنسان»؛ بينما لم يكن يعزف عن مغازلة النُظم المُستبدة، ونُشدان استمرارها كأمر واقع، طالما كانت مصالحه مؤمنة، وأرباحه مضمونة، فيما ظل يُرَوِّجُ لشعاراته البرّاقة لكى نلهو بها فى مُسامراتنا السياسية، ونلوكها كالعلكة فى جلساتنا الثقافية؛ دون أن يُقدم لنا ما يُثبت إيمانه بأحقيتنا فى الاستمتاع بهذا «الترف»، أو يطرح دليلًا على صدق يقينه بضرورة تطبيقها على أرضنا.

انحياز مفضوح:
والمُذهل أن كل ما تقدم الإشارة إليه من «جرائم يشيب لهولها الولدان»، كما يقول التعبير الدارج، والمنقول  لحظة بلحظة على رءوس الأشهاد عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية وأدوات التواصل الاجتماعى، بالصوت والصورة، ومشهود وقائعها فى مشارق الأرض ومغاربها، بل وتخرج بشأن إدانتها، والمُطالبة بإيقافها، يوميًا، المُظاهرات، التى يؤمها مئات الآلاف من الشعوب الأوروبية وغيرها من شعوب العالم، دون أن يرف جفن لأغلب قادة الغرب أو أمريكا، الذين وقفوا يتفرجون على المأساة الإنسانية، التى فاق وزن وتأثير ما ألقى على غزة فيها من مواد متفجرة وزن وتأثير قنبلتى «هيروشيما» و«نجازاكى»، والأنكى أنهم حركوا الأساطيل، والسفن الحربية، وقوات «المارينز»، والطائرات الحديثة، وأجهزة التجسس، وأطقم الخبراء والمتخصصين، وآلاف الأطنان من المُعدات الحربية والإمدادات اللوجستية، لكى يدعموا ربيبهم المُدلل، «الكيان الصهيونى» حينما شعروا باهتزاز وضعية قواته، وارتباك أداؤه فى ساحات القتال.

الكيل بمكيالين:
وتستمر المذابح الصهيونية الوحشية فى غزة وسائر الأراضى الفلسطينية المغتصبة، فيما المجتمع الدولى يقف أمامها بائسًا؛ يائسًا؛ لا حول له ولا قوة، فى مواجهة «الفيتو الأمريكى» فى مجلس الأمن، عاجزًا عن السماح بإدانة «إسرائيل» أو حتى مجرد التحرك لمنعها عن الاستمرار فى ذبح الشعب الفلسطينى، وليس حتى لعقابها، وكذا الأمر فى «المحكمة الجنائية الدولية»، التى لم تجرؤ حتى الآن على اتخاذ قرار فى هذا الشأن الجلل، وقد تقدمت خمس دول، للأسف لا يوجد من بينها دولة عربية واحدة من الدول الأساسية، إلى المحكمة الجنائية الدولية، هى: «جنوب إفريقيا وبنغلادش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتى»، ثم انضمت دولة فنزويلا إليهم، بطلب التحقيق فى جرائم الكيان الصهيونى فى عدوانه على غزة، ورغم «بلاغة» المُدعى العام للمحكمة، البريطانى «كريم خان»، واجتهادة فى ابتداع مسميات مبتكرة تصف ما يقترفه الكيان الصهيونى من جرائم ضد أهل غزة والمناطق الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال، مثل: «وباء الوحشية» وما شابه ذلك من أوصاف، فإنه، اكتفى بهذا التوصيف البليغ، لكنه، حسب تقييم أ. «محمد القزاز»، «جريدة الأهرام، 27 نوفمبر 2023»: «منذ توليه المسئولية فى 2021، وأمامه جرائم الحرب الخطيرة فى الأراضى الفلسطينية لم يحقق فيها، أو فى غيرها من جرائم سبقت هذه الحرب، مدعيًا أنه يستند إلى قانون روما الأساسى، وأن إسرائيل ليست عضوًا فيه، على حين يتلقى قضايا لاحصر لها تخص الجانب الروسى فى حربها على أوكرانيا، ويُحقق فيها رغم أنها «أى روسيا» دولة ليست عضوًا فى المحكمة»!

القول للأصفياء:
بماذا يُمكن أن نوصّف الممارسات الصهيونية التى أشرنا إلى طرف منها فى السطور السابقة؟.. إنها ودون شك حرب «إبادة جماعية» صهيونية، تستهدف اجتثاث جذور الشعب الفلسطينى، و«تصفية» قضيته، لكن الأمر لا يتوقف على رغباتنا وحسب، وإنما يخضع للتحديد القاطع، كما تشترط أسس التحليل العلمى المُعمق، وهو أمرٌ يوضحه البروفيسور «مارتن شو»، فى سفره القيِّم: «الإبادة الجماعية: مفهومها، وجذورها، وتطورها، وأين حدثت...؟»!
وبداية يُقر البروفيسور «شو» بصعوبة تحديد ما هية جرائم «الإبادة الجماعية»، وما الذى يُفارق بينها وبين مظاهر أخرى للتفحش فى الانتقام من الجماعات البشرية أو السياسية الأخرى، كـ «التطهير العرقى» و«القتل السياسى» وغيرهما من مظاهر العنف وصور الانتقام؟ 
«فالإبادة الجماعية ليست واقعًا بسيطًا موجودًا بإمكانى الحصول عليه، وإعطاء القارئ التعريف الصحيح له» كما يذكر الكاتب، ومن أجل الوصول إلى هذا التعريف المقنع، والذى يسد الثغرات ويمنع التباينات فى الرؤى والمواقف، كتب هذا السفر الذى يضم عشرة أبواب وخاتمة.
وقد احتلت عملية تتبع تاريخ مصطلح «الإبادة الجماعية» مُراجعة دور «رفائيل لِمكن»؛ القانونى والباحث وقائد الحملات، واليهودى الديانة، وواضع المُصطلح، الذى بذل جهدًا كبيرًا لترسيخ أسس للاعتراف بهذا المفهوم، فى أعقاب هزيمة النازية الألمانية عام 1945، ومن سخريات التاريخ، أن يعاود الزمن دورته، فيلجأ أبناء وأحفاد ضحايا «الهولوكست»، إلى نفس المُمارسات التى تعرضوا لوحشيتها فى الماضى المنظور، بهدف التعجيل بالخلاص من شعب فلسطين وقضيته العادلة!
وتعبير «الإبادة الجماعية» «Genocide» يعنى، كما صكَه «رفائيل لِمكن» عام 1944: «تدمير أمّة، أو مجموعة عرقية»، وهى مُركَّبة من الكلمة اليونانية genos  العِرق أو القبيلة، واللاتينية cide «قتل».
و«الإبادة الجماعية» لا تعنى «التدمير الفورى لأمة إلا عندما يتم ذلك بالقتل الجماعى لأفراد تلك الأمة كلهم، بل أنها ترمى إلى تحديد خطة منسقة من الأعمال المختلفة؛ الهادفة إلى تدمير أسس الحياة الجوهرية لمجموعة قومية، بغرض إهلاك المجموعة ذاتها». 
فواضع المصطلح (لمكن) لم يقصد به وصف عملية التدمير الفورى بمعنى القتل الجماعى لأفراد أمة ما، فهو لم يُعرف عملية «الإبادة الجماعية» بهذا المعنى، فعملية «الإبادة الجماعية» طبقًا لمبتكر المفهوم، كانت أعم وأوسع، لأنها تعرضت «لعملية شاملة هاجمت فيها قوة لتدمر نهج حياة الشعوب ومؤسساتها»، وفى هذا الإطار تشكل الإبادة الجماعية الجسدية بما فى ذلك القتل الجماعى بُعدًا واحدًا من الهجوم الشامل، ولذا رأينا شمولية عملية التدمير الصهيونى، ففضلًا عن القتل المُمنهج لأبناء الشعب الفلسطينى دون أدنى تمييز يعنى بالتدميرالمنظَّم أيضًا للمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس والطرق والكبارى ومحطات الكهرباء وأدوات الاتصال،...إلخ إلخ.
ويُفسر البروفيسور «مارتن شو» أبعاد رؤية «لمكن» ومُفسريه لمُصطلح «الإبادة الجماعية» بكونه، وانطلاقًا من فهمه الخاص، لم يكن ينطبق وحسب على السياسة النازية المعادية لليهود، إذ يبدو أنه: «كان مُقتنعًا بأن السلوك النازى ضد عدد من المجموعات الأخرى، اقترب من الفعل النازى المعادى لليهود، إن لم يكن تكرارًا لها. لذلك ينبغى تمييزه على أنه إبادة جماعية»، وهو ما رأينا الكيان العنصرى الصهيونى، النازى الجديد، يصنعه مع أبناء الشعب الفلسطينى دون أن يعى مصير النازية أو يتعمق درسها الكبير! «يتبع»