رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لدى مصرنا ما تقوله وتصنعه دومًا

كثير من الناس، في ظروف قاسية مريرة، كالتي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة حاليًا، يطالبون دولهم العربية بدخول الحرب ومساندة المقهورين عمليًا لا نظريًا، هكذا بمنتهى البساطة، ودون فهم للمنطق العملي نفسه في هذا المجال، وكأن الحرب جولة ترفيهية مجانية، يدخلها من يدخلها للتنزه والترويح عن النفس، وهي طبعًا زيارة مكلفة للجحيم بذاته، ولا يدري الزائر إن كان سيخرج أصلًا أم لا!
مصر على رأس هذه الدول طبعًا؛ فهي التي يعلق عليها جموع العرب رجاءهم، أو إن كان هذا قدرها الذي منبعه ثقلها المادي والمعنوي؛ فإن السؤال البسيط المحتوم: لماذا لا يقف هؤلاء معها في محنها الخاصة، ما أكثر المحن وأشدها؟
من بداية الأحداث المرعبة في غزة، كان الموقف المصري واضحًا لا لبس فيه:
- لا لتصفية القضية الفلسطينية والتشكيك في شرعيتها وعدالتها.
- السلام خيارنا الاستراتيجي.
- نحن مع عودة إسرائيل وفلسطين إلى طاولة التفاوض، ومن ثم حل الدولتين.
- جيشنا لا يعتدي، وقادرون على حماية أنفسنا لو تعرضنا للخطر.
هكذا يمكن إجمال الموقف المصري، الذي تسعى الدولة إلى إثباته وترسيخه بكل قوة، من خلال قيادتها وحكومتها وبرلمانها ومجلس شيوخها ودبلوماسيتها وسياسييها ومفكريها وإعلامها النشيط، بالإضافة إلى الدور الحيوي المهم لمعبر رفح، الذي تصل المساعدات الإنسانية من خلاله إلى القطاع، ومصر تشارك في هذه الإمدادات الإنسانية بواسطة تحالفها الوطني وغيره، وتحاول أن تضاعف أعداد الشاحنات ما أمكنها ذلك، وفوق الإمكان، ومن خلال المعبر تستقبل مصر مرضى الحالات الحرجة والجرحى من المدنيين الفلسطينيين للعلاج، ثم تردهم بعد تحسن صحتهم ومداواة جراحهم، كذلك تستقبل الأجانب المقرر إجلاؤهم من القطاع المشتعل، ولا تمنع مصر مواطنيها من التعبير العلني عن أنفسهم في الشوارع والميادين، مهما جمحت الآراء، والمهم ألا تُحدث انشقاقا عامًا وفتنًا لا قِبل للبلد بها، فهي تقدّر حجم الغضب في الصدور، وتتفهم أن الناس ضجروا من الرسائل الرسمية التي لا تقرأها إسرائيل، وإن قرأتها فكأنها لم تقرأ حرفًا، غير أنها تتريث كثيرًا كثيرًا قبل أن تجاري المشاعرالقومية المتأججة؛ فتتخذ قرارًا مزلزلًا باهظ الثمن كالحرب، لن تكون نتيجته حاسمة أبدًا للأسف، على عكس التصور الشعبي غير الخبير، إنما ستزداد الأمور تعقيدًا بكل معنى الكلمة؛ لأن آخرين سيتدخلون حتمًا، مما يجر الإقليم كله إلى آفاق حرب عالمية ثالثة، تريدها إسرائيل فعلًا، إن ضمنت نهايتها، وتريدها دول الاستعمار القديم التي "يموت زمارها وأصبعه يلعب"، كما يقول المثل المصري الشهير السائر.. وبالعربي الفصيح: مصر لن تحارب إلا إذا حوربت ابتداء؛ فحربها دفاعية لا هجومية، وانحيازها، ما دامت مصونة، هو إلى الصلح والأمان لا الخصومة والقلق.
لدى مصر ما تقوله وتصنعه دومًا، ولا تصدقوا أن الآخرين كلهم يملكون الشيء نفسه، هي الدولة المحورية المؤثرة على رغم أنف خصومها من الأقرباء والغرباء، لديها أوراق كاشفة ألقتها على المنضدة بالفعل "مؤتمر السلام بالعاصمة الإدارية الجديدة نموذجا"، وقد كانت حينذاك أول العرب تحركًا على أعلى المستويات، ومن ضمن ما كشفته أيضًا ذلك التحرك الرفيع الواسع الذي لا يهدأ ساعة واحدة منذ دقت الطبول البغيضة للحرب، وبدأت إسرائيل عمليتها الانتقامية بالغة الوحشية ضد مدينة غزة وأهاليها، وبالأمس القريب وقف السيد سامح شكري، وزير الخارجية، مع رفيق منصبه الأردني، منددًا باستهداف المدنيين والمنشآت، وداعيًا إلى إيقاف الحرب الضروس فورًا، في حضور وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أكبر داعم لإسرائيل!
ولديها بالتأكيد أوراق شديدة الأهمية لم تكشفها بعد، إنما كل مرحلة لها أعمالها الخاصة وسطورها المناسبة، غير أن الناس لا يصبرون، وفي بعض استعجالهم حق لا تنكره الدولة، كما أسلفت، لكنها تضعه في سياقه المضبوط، سياق ألم القلوب والضمائر لفرط ما يقاسيه إخوتنا وجيراننا، وهو سياق محترم تمامًا للأمانة، لكنه يفتقر إلى حكمة ضرورية ينبغي أن نجد فيها ضالتنا، يفتقر إلى النظر العميق إلى ظروفنا وأحوالنا على وجه العموم، وإدراك ما يمكن أن يصيبنا به التسرع من الهلكة، ومن ثم الانتظار، ليس لأبعد مدى بالطبع، ولكن إلى المدى الذي لا يلهب نفوسنا بعده سوط الندم. من النبل أن نؤازر عروبتنا في التباريح بكل طاقتنا، ولكن ليس من المفيد بالمرة أن نهدر هذه الطاقة عاجلًا، وما زلنا ببدايات ملاحم تبدو طويلة جدًا، بدعوى هذه المؤازرة نفسها!