رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الترانسفير: الإبعاد الجماعى فى العقيدة الصهيونية (3)

 «يسرقون أرضنا،.. يُدمرون بيوتنا،.. يقتلون الأبرياء،.. وتُسَمِّي ذلك بالسلام؟
... والله لن يُفسدني سلامكم. نحن لن نستسلم. ننتصر أو نموت، ولا تظن أنها النهاية، 
فسيكون عليكم أن تُحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه»!                              
الشيخ «عمر المُختار» مُخاطبًا الجنرال الإيطالي المُحتل، على لسان «أنطوني كوين» في فيلم «أسد الصحراء».
في الوعي بفلسفة؛ وتاريخ؛ وآليات، ومخاطر سياسات «الطرد الجماعي»، أو«التهجير القسري»، أو «الإبعاد العنفي»، أو «الترانسفير» اختصارًا، والتي انتهجها قادة المشروع الاستيطاني الإحلالي الصهيوني، مُنذ تبلور في عقيدة أصحابه، كوسيلةٍ مُعتمدةٍ لتفريغ الأراضي الفلسطينية من سُكَّانها الأصليين، يُفيدنا كثيرًا الرجوع إلى السِفر المُهم، الذي قدَّم له الطبيب، والمُناضل، والمثقف الوطني، د. «محجوب عمر»؛ (رءوف نظمي)، الشاعر، والمفكر السياسي اليساري المصري، صاحب الدور المُهم في صفوف المُقاومة الفلسطينية ضد العدو الصهيوني، وقت انطلاقتها الستينية المشهودة.
الكتاب عنوانه: «الترانسفير: الإِبعاد الجماعي في العقيدة الصهيونية»، وصدرت طبعته الأولى عام 1990 من القاهرة، بمُقَدِّمَة ضافية للدكتور «محجوب»، استعرض فيها تاريخ هذه السياسة، وأبرز محطاتها وتجلياتها، وأشهر أعلامها ورموزها، مُقَدِّمًا لمجموعة مُهمة للغاية من المقالات المُترجمة عن العبرية، التي تناولت مفهوم «الترانسفير» في الفكر الصهيوني، أو فلنقل في فكر «اليمين الصهيوني» على وجه التحديد إن شئنا الدقّة، رغم أن عددًا من المُنتسبين لما يُسمَّى بـ «اليسار الصهيوني»، ومنهم الشخصية التي سنتناولها بالحديث في هذه السطور، كانوا من غُلاة المُتحمسين لهذه العقيدة أيضًا، الأمر الذي يمنحنا إثباتًا جديدًا على أنه في الفكر الصهيوني، ليس هناك فارق يُذكر بين اليمين واليسار، فالفارق دائمًا ما يكون في «التكتيك» لا في «الاستراتيجية»،... في أساليب تحقيق الهدف، لا في الأهداف النهائية، إذ إن كليهما نبتٌ لسرديةٍ باطلةٍ واحدةٍ، ويستهدف كل منهما أهدافًا مُتطابقة، وغايتهما واحدة في نهاية المطاف!
وسنُلقي الضوء في هذا المقال، على شخصية مُهمة من أكثر الشخصيات الصهيونية التي ارتبط تاريخها بفكرة «الترانسفير» حتى أنه قضى نحبه بسببها، وهو «رحبعام زئيفي»، العسكري، ووزير السياحة الإسرائيلي الأسبق، الذي شارك في تأسيس الكيان الصهيوني، وخاضَ كل حروبه ضد مصر والعرب، من 1948 إلى 1973، والذي كان يرى في العرب، كل العرب، بمن فيهم، وفي مُقدَّمتهم، المصريون، مُجَرَّد: «حشرات صغيرة تلدغ ولا تقتل»، وقد كان من أقطاب «حزب العمل»، حزب «بن جوريون» و«موشيه دايان» و«إسحق رابين» اليساري الزعم، و«يُمثل ظاهرة داخل المؤسسة العسكرية الصهيونية»، اتخذت وضعًا مُتميزًا أسطوري الطابع، «في عهد عبادة الجنرالات بعد حرب الأيام الستة»، وهو صاحب فكرة طرد الفلسطينيين (أو بلفظٍ خادعٍ مُخَفَّفٍ نقلهم!) إلى جميع الدول العربية: «فليذهب العرب (أي الفلسطينيين في الضفة والقطاع)، إلى بلاد العرب» (أي إلى خارج إسرائيل)!، وقد كلفته أفكاره العنصرية البغيضة حياته، حيث تم اغتياله في 17 أكتوبر عام 2001، ردًا  على عملية اغتيال جهاز «الموساد» الإسرائيلي للقيادي الُمناضل «أبو على مصطفى»، «الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» آنذاك.
كان «زئيفي» يؤمن بأن «حل المُشكلة العربية؛ (أي الفلسطينية) يمر عبر فُوهة البندقية، وصناديق سيارات اللوري (اللازمة لترحيل الفلسطينيين خارج أرضهم كالسائمة)!»، ولترويع الفلاحين الفلسطينيين البُسطاء في قرية «عقربة»، وإجبارهم على «الرحيل» من أراضيهم، اقترحَ، ونفَّذَ عملية رش مزروعاتهم بالمُبيدات السامة لقتل كل مَن يتناولها، وقد وصفه «عميرام كاهان»، في مُلحق «عل همشمار» (25/11/1988)، فقال إنه: «كان يميل إلى الشر.. ولا كابح له»، حتى أنه عبَّرَ عن أفكاره الدموية بتمنيه أن تحل باليهود الكارثة مرةً أخرى، حتى يدفعهم الأمر للتمسُّك بمشروعهم الصهيوني والسعي لإنجاحه، ذلك أنهم «لو ألقوا باليهود في أي مكان لكان في ذلك في مصلحة للصهيونية»! 
وبحسب «كاهان» فإن «زئيفي»؛ «في حبه لـ«أرض إسرائيل» كان يصل «إلى مصاف عبادة الأوثان، إنه يسجد للصخور والأحجار والهضاب والغابات،... وقد دفعَ بالأيديولوجية الاستيطانية إلى درجة التطرُّف المُتوحش»!
ورغم ادعاءاته (اليسارية) الزاعقة؛ فقد أصبح «زئيفي» رمزًا لليمين العنصري، الذي تحمّس لنظريته عن «الترحيل الإرادي للعرب»، والذي- كما شرح- لا يُقصد منه ترحيل بإرادة أو رغبة الطرف الفلسطيني المُفردة؛ «إذ لا يوجد مَن سيترك منزله أو بُستانه الذي يمتلكه، لكنهم سيخرجون بناءً على اتفاق يتم بين الحكومات»، ذلك أن «الصهيونية الحقيقية»، كما رأي؛ وذَكَرَ؛ ونفَّذَ «زئيفي»: «ليست أكثر من تاريخ قرن من الزمان من الطرد والمُحاولات التي لا تنتهي لإبعاد «العرب» عن البلاد»، مُقترحًا بدايات «مُتواضعة»،، أصبحت من تقاليد الحكم في الكيان الصهيوني، لتنفيذ مشروعه «خُطوةً خُطوة»، بحيث لا تُثير الكثير من الاعتراضات والزوابع، عبر اتخاذ كل ما يُمكن اتخاذه من فرضٍ للقيود، ومُمارسة لأشكال المُضايقات الكفيلة بتحويل الضفة الغربية إلى جحيم لغير اليهود من أصحاب الأرض، وتحويلها إلى منطقةٍ طاردةٍ لمن فيها من المواطنين الفلسطينيين، الأمر الذي يُيَسِّرُ البدء بإبعاد مئة ألف عربي عن الأراضي المُحتلة خلال عام والنصف كـ«بداية»، فـ«السماء لن تنطبق على الأرض لو نُفِّذَ هذا المشروع»، تمامًا مثلما مرّت عمليته المُسماه «المكنسة»، والتي أتم عبرها طرد الفلسطينيين من أرضهم في  «سهل الحولة»، في 3 مايو عام 1948، دون أن يعترضها أحد!
وإزاء افتقاد أية «حلول سهلة» لمعضلة الصراع الأبدي الدائر بين «العرب» و«الصهاينة»؛ يُصبح «ترحيل العرب» الفلسطينيين خارج «الأرض المُقدَّسة»، كما يرى «زئيفي» هو «الحل الأفضل لعرب الأراضي المحتلة وللشعب الإسرائيلي»، خاصةً أن طرح هذا «الحل» المُقترح على الرأي العام في الكيان الصهيوني العنصري، كما قال «زئيفي»، أظهرَ «حقيقةً واحدةً، وهي أن أغلب الشعب الإسرائيلي يُفكر مثلي»!... فـ«العدالة (أي عدالة؟!) تقول أنه لا توجد لنا أرض أخرى، وقد مرَّت بنا مشاكل ومآسٍ كثيرة (وكأن الفلسطينيين هم المُتسببون فيها!)، وهم يقولون إنهم يعيشون هنا مُنذ مئات السنين (وليس آلافها!) لكن الحقيقة التاريخية (أي حقيقة؟!) تقول إنه عندما جاء أوائل اليهود إلى هنا وجدوا هذه البلاد خاويةً تمامًا (!!!!)...»، و«هناك 22 دولة عربية تستطيع أن تستوعبهم» لكنهم «لم يحلوا المُشكلة، لأنهم يؤيدون أن تظل على نار حامية»!
يقول الكاتب والقائد الفلسطيني «غسان كنفاني» الذي اغتالته اليد الصهيونية الإجرامية: يسرقون الرغيف، ثم يُعطونك منه كِسرةٍ، ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم... يا للوقاحة! (يتبع).
*الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري.